برلين (رويترز)/ رهام الكوسى
كان الظلام لا يزال يلف دمشق وأنا أهبط درجات السلم وحياتي الجديدة كلها في حقيبة حمراء. وقفت أمي إلى جوار باب سيارة الأجرة تدعو لي بالسلامة.
أما أبي فلاذ بالصمت وهو متأكد أنه لن يراني مرة أخرى. أنزلت زجاج نافذة السيارة ولوحت لهما إلى أن اختفيا عن ناظري.
كان الحزن يعتصرني لفراقهما لكنني كنت أشعر في الوقت نفسه بالامتنان لمدينتي القديمة المرهقة التي سمحت لي في نهاية المطاف بالرحيل.
أصبحت واحدة من 700 ألف لاجئ فروا من سوريا ومن حربها التي لا تنتهي إلى ألمانيا التي أتاحت المأوى تحت سماء رمادية لكنها سخية.
منذ ذلك الصباح في سبتمبر أيلول 2014، رويت حكايات كثيرة عن محاولات اللاجئين أن يجعلوا من ألمانيا وطنا لهم من خلال التئام شملهم بأسرهم هنا.
وكصحفية تغطي أكبر أزمة لاجئين في القرن الحادي والعشرين كتبت تقارير صحفية عن الانتظار والشعور بالوحدة ومتاهة الأوراق الرسمية التي يبتلى بها من يسعى وراء لم شمل أسرته.
أما هذه المرة فأنا أروي حكايتي. فبعد عام من رحيلي عن سوريا إلى ألمانيا وأنا في الثالثة والعشرين حاول والداي كما حاولت أنا دون جدوى الالتقاء في لبنان والجزائر والسودان وإيران وماليزيا وكلها من الدول التي لا تزال تصدر تأشيرات للسوريين.
لكن فرصتنا في اللقاء كانت واهية للغاية لكوننا من نسل لاجئين فلسطينيين في سوريا ليست لنا جنسية رسمية سواء سورية أو فلسطينية أو جواز سفر.
ومن اللحظة التي وليت فيها ظهري لسوريا أصبحت حياتي سلسلة من اللحظات التي يفترض أن يشترك فيها المرء مع غيره.
افتقدت والدي الاثنين عند تخرجي من برنامج للدراسات العليا في جامعة كولومبيا بنيويورك بعد أن فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حظرا على دخول الزائرين القادمين من سوريا.
وافتقدتهما في حفل خطبتي وعندما انتقلت إلى شقتي الأولى في برلين وفي كل رمضان وكل عيد وكل عيد ميلاد وليلة رأس سنة كل عام. ساهم تطبيق واتساب في خلق وهم بالتواصل والقرب.
وفي البداية كان أول شيء أراه على هاتفي في الصباح مكالمات فائتة لم يرد عليها من أمي. ثم تعلمت أمي إرسال الرسائل الصوتية عبر التطبيق وأصبحت تلك الرسائل روتينا صباحيا لنا.
كانت تسجل الرسائل أثناء إعداد قهوة الصباح لأبي وكنت استمع لها وأنا في طريقي إلى مدرسة اللغة الألمانية أو إلى العمل.
كذلك كنا نتعلق بشدة بمكالمات الفيديو رغم أن بطء الإنترنت في سوريا كان يتسبب في تقصيرها. لكن عندما لا يظهر من تحبهم سوى على شاشة اللابتوب أو هاتفك المحمول فإنهم يتحولون ببطء إلى شخصيات غير حقيقة مثل الشخصية المفضلة لك على التلفزيون في طفولتك، يصبحون شخصيات مألوفة جدا لكنها خيالية.
نحن نسميها الغربة. هي شعور تحاول من خلاله طهي كل الأطباق التي تحبها وفي وقت واحد لا لشيء سوى طمأنة نفسك أن بإمكانك استعادة الوطن.
وهي المساء الطويل الذي تقضيه في مشاهدة فيلم أو مسلسل على نتفليكس حيث يُصنع الشاي في فنجان لا في الغلاية الكبيرة التي اعتادت أمك أن تبقيها جاهزة لك.. وهي الخوف من العطلات الأسبوعية بساعاتها الفارغة يتسلل ببطء في المساء الهادئ أيام الجمعة.
ثم سمعت ببرنامج خاص لإعادة التوطين عرضته حكومة برلين يتيح فرصة ضئيلة حقا لكنها فرصة رغم كل شيء للم شمل الأسر السورية والعراقية.
كانت الهجرة واحدا من أشد الموضوعات إثارة للخلاف في ألمانيا وأوروبا منذ قررت المستشارة أنجيلا ميركل في 2015 فتح الحدود لأكثر من مليون شخص فارين من الحرب والاضطهاد في الشرق الأوسط وما وراءه.
وأصبحت المخاوف من الهجرة وقودا لأحزاب اليمين في مختلف أنحاء القارة ودفعت بحكومات أوروبية إلى إغلاق حدودها وإبرام اتفاق ثار من حوله الجدل مع تركيا للحد من الهجرة خارج إطار القانون.
وانخفض عدد طالبي اللجوء في ألمانيا بنسبة 72.5 في المئة بين العام 2016 الذي شهد توقيع الاتفاق والعام 2017.
وبالنسبة للسوريين أصبح الحصول على تأشيرة زيارة لألمانيا اليوم صعبا لأن سلطات الهجرة تتشكك في عودة المسافرين إلى البلد الذي دمرته الحرب.
ولا توجد إحصاءات حكومية عن عدد السوريين الذين حصلوا على تأشيرة زيارة قصيرة في السنوات الأخيرة لكن وزارة الخارجية الألمانية لا تسجل جنسية المتقدمين للحصول على التأشيرة.
غير أن السفارة الألمانية في بيروت أصدرت 7913 تأشيرة زيارة في العام 2019 تشمل كل المتقدمين اللبنانيين بالإضافة إلى السوريين.
ولا يحق سوى للأطفال القصر من الحائزين على وضع لاجئ رسميا جلب آبائهم وأمهاتهم وأشقائهم القصر إلى ألمانيا.
أما أنا فكنت شخصا بالغا عندما تقدمت بطلب اللجوء قبل خمس سنوات ولم أكن مؤهلة لعملية لم شمل الأسر العادية. غير أنه إذا وعد اللاجئ السوري البالغ، أو أحد مواطني الاتحاد الأوروبي من أصحاب الوظائف بالتكفل بكل المصاريف المالية لفرد من أفراد الأسرة فبالإمكان لم شملهما في ألمانيا من خلال برنامج خاص للاجئين السوريين والعراقيين.. وتتيح خطة إعادة التوطين إقامة لمدة عامين وإذن عمل وتأمينا صحيا عاما لأفراد الأسرة.
بدأت ولايات ألمانية كثيرة العمل بهذا البرنامج في 2013 لإعادة توطين أسر اللاجئين السوريين الذين صدرت الموافقة على طلبات اللجوء الخاصة بهم وحصلوا على وضع اللاجئ رسميا في ألمانيا. ويجدد العمل بهذا البرنامج على أساس سنوي وتتولى حكومات الولايات البت في تمديده.
ومن بين 15 ولاية أتاحت هذا البرنامج في 2014 لم تمدده سوى خمس ولايات حتى 2020. ولكي أتأهل لهذا البرنامج كان علي أن أحصل على وظيفة مستقرة في ألمانيا مع احتمالات العمل لفترة طويلة ودخل شهري يظهر أن عضو الأسرة لن يكون في النهاية عبئا على النظام.
وفي ظل عوائق اللغة والمهارات، يعد الوفاء بتلك الشروط أمرا صعبا. وفي السنوات الست التي انتهت في أكتوبر تشرين الأول 2019 لم يستفد من هذا البرنامج سوى 1098 شخصا في ولاية برلين وفقا لما توضحه بيانات حكومية.
ومن بين 459 طلبا قدمت خلال 2019 صدرت الموافقة على 173 طلبا فقط. ومن أصعب الشروط الحصول على أجر لا يقل عن 2300 يورو شهريا بعد اقتطاع الضرائب.
وقال إنجلهارد ماتسانكه رئيس مكتب الهجرة في برلين ”ليس من السهل الحصول على هذا المبلغ عندما يكون المرء قد هاجر حديثا إلى هنا“.
وفي بداية الفترة التي قضيتها في برلين أتحدث باللغة العربية في بلد يواجه موجة من اللاجئين العرب، عملت مع صحفيين أمريكيين وألمان مستقلين لنقل حكايات الوافدين الجدد.
وأثناء قيامي بالترجمة والحديث مع الناس في مركز استقبال حالات اللجوء في برلين، خطر لي أن بإمكاني أن أروي تلك الحكايات بنفسي. لكن الانتقال من مجرد مرافق لصحفي إلى صحفي حقيقي بلغة جديدة في بلد جديد كان يحتاج لأكثر كثيرا مما توقعت.
استغرق الأمر أربع سنوات وحضور فصول لا حصر لها لدراسة اللغة الألمانية والحصول على درجة الماجستير من إحدى الجامعات الأعضاء في رابطة اللبلاب التي تضم أشهر الجامعات الأمريكية المرموقة والمشاركة في بضعة برامج تدريبية في مؤسسات وفي برنامج تدريبي مدته عام ونصف العام إلى أن حصلت على عقد عمل في رويترز يفي بشروط برنامج لم شمل الأسر..لكن شرطا آخر كان من أقسى الشروط على قلبي.
كان علي أن اختار.
كان موظف الهجرة في برلين المسؤول عن حالتي واضحا إذ كان علي أن اختار بين والدي أو أحد أشقائي الأربعة في الطلب الذي سأتقدم به.
أشقائي لا يزالون في المدرسة في مدينة حمص السورية ولذا كان الانتظار بضعة أعوام أخرى منطقيا. وكان معنى ذلك إما أن أحرم شقيقاتي من فرصة تكوين مستقبل في ألمانيا أو أطيل أمد فراقي المستمر منذ خمسة أعوام عن والدي دون أي بادرة في الأفق على نهايته.
ومرت الأسابيع وأنا عاجزة عن اتخاذ القرار ثم أذهلني صديق ألماني بعرض لمساعدتي.
كنت وباسكال مولر قد التقينا قبل عدة سنوات عندما احتاجت المساعدة في الترجمة لأسرة لاجئ سوري من أجل موضوع لصحيفة تاج شبيجل خلال موجة الهجرة عام 2015.
لم تكن كل منا قد رأت الأخرى منذ أكثر من عام عندما قالت إنها ستضمن إحدى شقيقاتي. سألتها أن تأخذ بعض الوقت قبل أن تقرر، لأن الضامن مسؤول ماليا عن الوافد الجديد. وإذا ما طلبت شقيقتي إعانة رعاية اجتماعية أو بطالة فسترسل الحكومة الفاتورة إلى باسكال.
قالت باسكال ”جميع من تحدثت معهم قالوا ‘ما كان لي أن أفعل ذلك‘، لكن كان لدي مشاعر طيبة حيال الأمر“. وبعد عدة أسابيع كنا في مكتب الهجرة في برلين نوقع الأوراق. فعندما تريد الحياة أن تعطيك استراحة من متاعبها وآلامها تجعلك تشعر أن الباب الذي بدا موصدا ربما ما كان مغلقا من الأساس.
وعندما سمع صديق آخر لي، وهو بريطاني، بمساعدة باسكال غير المتوقعة هب هو الآخر لضمان شقيقتي الأخرى.
تعين علينا الإسراع بإنجاز الأوراق قبل أن يصبح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أمرا واقعا وعندها لن يصبح من مواطني الاتحاد، لكن كان علينا أيضا انتظار زيادة الراتب التي وُعد بها.
وكان كل يوم يتأخره البرلمان البريطاني في الموافقة على اتفاق الخروج من التكتل الأوروبي يمنحني وشقيقتي فرصة أكبر للم الشمل.
وفي النهاية، تمكن من توقيع الأوراق. وخلال أسابيع، وصلتي رسالة بالبريد الإلكتروني من السفارة الألمانية في بيروت تطلب إجراء مقابلة مع عائلتي.
ولأن ألمانيا سحبت تمثيلها الدبلوماسي من سوريا بعد قليل من انتفاضة 2011 هناك، كان لا بد من إجراء المقابلات مع السوريين الذين يتقدمون للحصول على تأشيرة دخول لأراضيها في إحدى السفارات أو القنصليات الألمانية في الدول المجاورة لسوريا.
وكان لبنان أقرب تلك الدول، ونظريا أسهلها من حيث إمكانية الدخول. لكن بقدر تعقيد الجمل الألمانية التي تعين علي معرفتها جيدا، لم يكن شيئا سهلا في هذه العملية.
فقد أصبح مجرد موعد دلالة على المصاعب البيروقراطية والشعورية التي يواجهها النازح في العالم أجمع.
ففي البداية اضطرت عائلتي لمغادرة دمشق قبل منتصف الليل من أجل موعد في الثامنة والنصف صباحا ببيروت في رحلة لا تستغرق سوى ثلاث ساعات ونصف الساعة برا، وذلك نظرا لعملية الدخول المعقدة التي يواجهها السوريون من أصل فلسطيني.
وعندئذ، وفي اللقاء، حاولوا تسليم وثيقة تم إبلاغها بإحضارها، لكن الموظف قال إنها لم تكن لازمة. وبعد بضعة أسابيع، اتصلت السفارة تطلب الوثيقة نفسها.
وحينها لم يكن يسعنا دفع أجرة السائق التي كانت نصف الراتب الشهري الذي يتقاضاه والدي من عمله أستاذا جامعيا وذلك لنقلها إلى بيروت أو العثور على شخص آخر لإيصالها.
لكن حالفنا الحظ، فوالدا صديقة لي كانا مسافرين إلى القنصلية في لبنان في اليوم التالي من أجل مقابلة بهدف الحصول على تأشيرة دخول عبر البرنامج ذاته. لكن الحظ تخلى عنا مجددا.
وبعد الانتظار شهرا لسماع ولو كلمة عن طلبنا، طُلب منا إرسال جوازات السفر كيما تُختم طلباتنا إما بنعم أو بلا. وهذه المرة كنا سعداء ونحن ندفع للشخص الذي سيوصلها إلى بيروت.
وعندها جاء التأجيل الثاني: جرى إبلاغنا بوجود مشكلة بخصوص وثيقة سفر والدي، لكن السلطات لم تفصح عن ماهية المشكلة.
اتصلنا بالسفارة أكثر من مئة مرة وكنا إما لا نجد ردا أو الخط مشغولا. حاولت الاتصال برقم طوارئ مختلف مخصص للمواطنين الألمان وجرى إيصالي في آخر الأمر بشخص أجاب على سؤالي.
تبين أن المشكلة في صورة والدي بجواز السفر: فالنظارة التي كان يضعها جعلت وجهه يتعذر التعرف عليه. فهمت المغزى. لكن لماذا لم تُثر هذه المشكلة عندما تقدمت للبرنامج بنسخ من وثائق السفر أو عندما أُجريت مقابلة مع والدي وخضعت وثائقه للفحص والتدقيق في السفارة قبل ذلك بستة أسابيع؟ لماذا لم تتصل السفارة بنا ببساطة لتطلب وثيقة سفر جديدة؟ قالت لي وزارة الخارجية الألمانية في رسالة بالبريد الإلكتروني ”نظرا لعدد الطلبات الكبير للغاية في بعض الحالات، فقد لا تظهر جميع التفاصيل المتعلقة بكل طلب من الوهلة الأولى عند تسجيل الطلبات في البداية“.
أستأجرنا سائقا يدعى أبو هشام لأخذ جوازات السفر إلى السفارة مجددا بعدما تلقت والدتي اتصالا ثانيا بعد عدة أسابيع. لكن حتى الرحلة تلك كانت محفوفة بكارثة محتملة. فخلال رحلة العودة توقف الرجل الذي لم يكن معه ركاب لرجل على الطريق ظنا منه أنه بحاجة لمن يوصله إلى دمشق.
وطلب الرجل التوقف لحين مجيء اثنين من أصدقائه، وما كان من الثلاثة إلا أن سرقوا كل ما بحوزة أبو هشام من مال. لكنهم تركوا مظروفا في صندوق التابلوه كان يحوي الجوازات المختومة.
وفي النهاية، وبعد أكثر من ستة أشهر من تقدمي بالطلب، تمكن والداي من السفر جوا إلى ألمانيا. وفي مساء شتوي، كنت في مطار تيجيل في برلين أترقب وصولهم.
وفي الأوقات العادية تحط طائرة من بيروت إلى برلين هناك في المساء مرة كل يومين، ويسهل التعرف على السوريين عند بوابة الوصول. وحينها يلتئم شملهم بأقاربهم الذين يستقبلونهم بأكاليل الورود المرتبة بعناية وبأطفال يرتدون سترات سوداء في حين يجهش كبار السن بالبكاء.
وحتى حراس الأمن يدمعون ويبتسمون وإن كانوا قد رأوا مشاهد لم الشمل هذه مرات عديدة. انخرطت في البكاء على كتف والدي عقب نزوله من على متن أول رحلة جوية يستقلها في حياته وهو في عمر التاسعة والخمسين.
بكيت دموعا أجرتها كل الليالي التي قضيتها وحيدة في برلين، كل السنوات التي جعلته كهلا بينما أصبحت أقوى، منزل أسرتي الذي أحاله القصف أنقاضا، الأوقات التي لم نقضها معا.
وبعد خمس سنوات، بتنا أسرة مرة أخرى.