خلال سنوات طويلة واجهت مأرب حشوداً وكثافة نارية حوثية كانت كفيلة بسحق الجبال، لكن مأرب سحقت تلك الحشود والأنساق، وظلت تتحدى متكئة على تراث سبئي فيه الكثير من العنفوان والقوة والدفاع عن المظلوم ونجدة الملهوف، وعلى تراث ديني فيه الكثير من التضحية والفداء والاستبسال في مواجهة الظالمين. يقف تاريخ المكاربة والأقيال في مأرب جنباً إلى جنب إزاء تاريخ الفاتحين اليمنيين العظام، يقف هذا التاريخ أمام اليمنيين اليوم وهم يدافعون عن عاصمة سبأ ضد هجمات وكلاء الإيرانيين في مهد العرب ومنبت أرومتهم. نقول ذلك، ونحن نعلم أن مأرب باعتراف خصومها قد أكلت قيادات وعناصر لا تحصى من مليشيات الظلام، ونعرف أن دورها الذي تسطره اليوم سيكتب في صفحات مدن التاريخ الخالدة، ولن ينسى اليمنيون في صنعاء- قبل غيرها - دور مأرب التي يضعون أيديهم على قلوبهم حنيناً لنصرها على عصابة بدأت مظلومة - كما تدعي - وانتهت مارقة عن شيم اليمنيين ومشوهة سماحة ملتهم. لا شك أن مأرب دفعت ثمناً باهظاً، وضريبة هي الأقسى، وأنها ودعت خيرة أبنائها، وخيرة من جاء للدفاع عنها من اليمنيين الذين أبوا السكوت على الضيم، وانضموا لمأرب في معركتها المفصلية ضد قوى التخلف والرجعية والكهنوت الديني. ومع كل تلك التضحيات، فإنه لا ينبغي أن يكتفي الجمهوريون بالتصفيق لمأرب وبطولاتها، بل لابد من هبة منظمة لرد بعض الدين المستحق لهذه المحافظة في رقاب اليمنيين جميعاً. وإذا كان مقبولاً من رجال الإعلام أن يشيدوا بنموذج مأرب في مقاومة الكهنة، فإن القادة العسكريين في المناطق المختلفة في الساحل وصعدة وحجة والضالع وشبوة وأبين ولحج وغيرها، هؤلاء القادة لا يجب أن يكتفوا بالإشادة بمأرب. مأرب تحتاج منهم ما هو أكثر، تحتاج المدد من جهة، وتحريك الجبهات لتخفيف الضغط من جهة أخرى. نعلم طبيعة الظروف الميدانية وإشكالية عدم واحدية القيادة ونقص التسليح والإشكاليات اللوجستية، لكن تلك الظروف التي قد تكون عائقاً يمكن أن تشكل حافزاً إذا وجدت الإرادة الصادقة لتخفيف الضغط عن مأرب، والقائد العظيم هو من يصنع النصر بأقل التكاليف. أما القيادة السياسية والعسكرية فإنها مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بترك الأساليب التقليدية في الأداء التي تجعل التحرك يأتي متأخراً. مطلوب اليوم تسليح مأرب بسلاح نوعي يحدث نوعاً من توازن القوة، وهذا التكتيك – بالمناسبة – هو الوسيلة الوحيدة لإحلال السلام، لأن توازن القوى هو الذي سيجعل الحوثيين يدركون مدى كلفة الحل العسكري، إذ لا يمكنهم إدراك ذلك، في ظل اختلال ميزان القوة العسكرية لصالحهم، حيث لم يعد مقبولاً الدعوة إلى حظر تصدير السلاح على طرف شرعي، فيما الطرف غير الشرعي يتسلح بالأسلحة النوعية المختلفة. ينبغي – وبشكل سريع – النظر بجدية في تسليح الجيش، إذ لا يعقل أن مليشيا غير معترف بها، تصلها أنواع الأسلحة الحديثة من البالستيات إلى المُسيَّرات إلى أنواع المدفعية والصواريخ الحرارية، فيما السلطة المعترف بها لا تستطيع تسليح جيشها. وفي هذا السياق، يجب – وبشكل عاجل – إعادة تفعيل العلاقة بين الشرعية والتحالف، وتجاوز الحسابات الضيقة، والاتفاق على تفاهمات محددة، وأدوار واضحة لكل طرف، لأن المعركة معركة عربية بامتياز، كما هي معركة إيرانية بشكل واضح. آن الأوان لأن تدرك الشرعية والتحالف أن النصر سيكون للجميع دون استثناء وأن الخسارة – لا سمح الله – ستكون على الجميع، وهذا يلزمهما بضرورة التفكير خارج الأطر التقليدية، وبشكل عاجل لإعادة صياغة العلاقة على ما كانت عليه في بداية العمليات، وهي العلاقة التي بموجبها يخوض اليمنيون معركتهم بأنفسهم، وبمساعدة التحالف، وليس العكس، وهذه هي العلاقة التي تحقق بسببها الإنجاز الأكبر ضد الانقلابيين الحوثيين خلال الشهور الأولى من العمليات العسكرية. يجب إعادة نسج العلاقات مع الشركاء الجمهوريين، وتنسيق الجهود ميدانياً، والبدء بشكل فاعل بالتحرك، وتجاوز الطروحات النظرية إلى التطبيق العملي، مع العمل على إعادة بناء الثقة، وتجاوز الخطاب الذي أفرزته احتجاجات 2011، لأننا اليوم في مرحلة لا تحتمل المزيد من المكايدات، وكذا تجاوز الخطاب الذي أفزته معارك عدن، مع ترشيد الخطاب الإعلامي، والتنبه لحيل الحوثيين الواضحة في ضرب خصومهم بخصومهم. وما لم تتجسد كل تلك الدعوات للتوحد في قيادة موحدة وغرفة عمليات واحدة فإن الدعوات للم الشمل ووحدة الصف ستظل فقاعات إعلامية بلا جدوى. على السلطة المحلية والقيادات الأمنية والعسكرية في محافظة مأرب تحديداً مسؤولية التصرف بحرية أكبر، وأن يتحرك المحافظ بشكل خاص لبناء تفاهمات جديدة، وأن يقود عملية إعادة نسج العلاقات بين الجمهوريين في الداخل، مجتمعياً وسياسياً وعسكرياً، وأن ينطلق متجاوزاً الأطر التقليدية، في البحث مع الحلفاء عن استراتيجيات جديدة تليق بحساسية المعركة، كما يجب تفعيل دعوته للنفير العام ليس في مأرب وحدها، ولكن في عموم المحافظات للدفاع عن الثورة والجمهورية، ولا بد من تفعيل استراتيجية اقتصادية يكون دعم الجيش في صلبها، بتخصيص الحكومة نسبة من إيراداتها لدعم معركة اليمنيين ضد الإماميين الجدد. وهنا ينبغي الإشارة إلى أن مبادئ الشفافية والمساءلة والمحاسبة والتقييم أصبحت واجباً وطنياً مقدساً، لأننا دون ذلك سنستمر في تكرار الأخطاء التي جعلت الحوثيين يتقدمون في بعض المناطق. يجب وضع آلية لصرف مرتبات الجيش وإلزام المجندين بمواقعهم، والتخلي عن أسلوب الفزعات الوقتية، والتخلص من الكشوف الوهمية، والاكتفاء بتسجيل من هم في الميدان، مع ضرورة محاسبة القيادات العسكرية التي تتهاون في الامتثال لقواعد الشفافية ومكافحة الفساد. الحوثي يقاتل بتكتيكات واضحة منذ أيام عمران وما قبلها وإلى اليوم: كثافة بشرية ونارية، مع تطبيق تكتيكات الالتفاف والمفاجأة حين يعجز عن الاختراق. هذه الأساليب هي التي اتبعها الإيرانيون في حربهم على العراق، وبالتالي فمن المهم النظر في طبيعة الاستراتيجية العراقية المضادة التي أدت إلى طرد الإيرانيين من العراق، وتجرع الخميني كأس السم، مع إدراك الفوارق الموضوعية والظرفية بين التجربتين. ليس معقولاً أن يتحرك الحوثي بخطط واضحة ومكشوفة، ثم لا يواجه بخطط مضادة تبطل مفعول خططه، وتباغته حيث لا يحتسب. الحوثيون يخشون – حد الموت – الكمائن، مع وجودهم في مناطق تعتبر بيئة معادية لهم، ولذا فإن الاعتماد على المجموعات الصغيرة، والحركة المباغتة، لكن خطوط دفاعهم ليست بقوة أنساقهم الهجومية، ولذا عندما ينكسرون فإنهم ينسحبون إلى مسافات بعيدة، بفعل عدم وجود خطوط دفاعية قوية، نتيجة لتركيزهم على الهجوم، ولكن الجيش في المقابل ليس لديه التسليح الهجومي ولا اللوجستيات الكافية لملاحقة الحوثي عندما ينكسر هجومه، ولذا يعيد الحوثي ترتيب صفوفه ويعاود الهجوم. بعد كل ذلك، وعندما تنسق الجهود الميدانية لدحر الحوثي فإن دور المؤسسات الدبلوماسية والإعلامية سيكون فاعلاً في حركتها باتجاه الإقليم والعرب والعالم. يجب إيضاح حقيقة المعركة في اليمن، وإعادتها إلى تعريفها الحقيقي، بما هي عدوان إيراني بأيد حوثية على اليمنين، لأن هذا العدوان بدأ في 2004 ولم ينته حتى الآن، كما يجب إعادة توصيف المعركة بأنها بين الشعب اليمني وجماعة انقلابية استغلت إمكانيات الدولة، ومناكفات المكونات السياسية للوصول إلى ما وصلت إليه، دون الانخداع بالصورة التي يحاول الحوثي رسمها لنفسه كممثل لليمنيين عندما يحشد بأساليب الترهيب والترغيب في المناسبات المختلفة، وهي الصورة التي يعرف الحوثي عدم مصداقيتها، لأنه لو كان واثقاً من شعبيته لشكل حزباً سياسياً منافساً، بدلاً من اللجوء إلى الحرب للوصول إلى السلطة، حيث لا تقاس الجماهيرية إلا بالاقتراع السري الحر، وليس بسحب الناس من أمعائهم إلى الساحات العامة لالتقاط الصور المخادعة. يجب العمل على تغيير الصورة، فالحوثيون ليسوا أقلية مضطهدة تدافع عن نفسها وعن اليمن، بل جماعة فاشية تمارس ديكتاتورية الأقلية ضد الأغلبية، بفعل الظروف المعروفة للكل، والتي مكنتها من لعب هذا الدور. ختاماً: علينا أن نتوقف عن التصفيق لمأرب، فهي لم تعد بحاجة إليه، لأن تاريخها وحاضرها معلوم للجميع، مأرب بحاجة دعم حقيقي ونوعي أكثر من حاجتها للتصفيق، وهي مستعدة لكسر الحوثيين في أيام.
أوقفوا التصفيق ابدؤوا العمل
2021/11/02 - الساعة 04:45 صباحاً