"المنافي المريحة"

 

اخترع الطغاة والمستبدون مصطلح "المنافي المريحة" ليبرروا استبدادهم وقمعهم لمعارضيهم .. طاردوا معارضيهم وحكموا عليهم بالموت ، والسجون ، والنفي ، ومصادرة ممتلكاتهم ، وتفجيرها ، ثم أخذوا يشوهونهم بالتلفيق بأنهم يعيشون في منافي مريحة بالمقارنة مع حياة الشعوب التي تسلط عليها هؤلاء الطغاة وأفقروها ونهبوها وسرقوا احلامها ودمروا مستقبلها . 

تكتم الطغاة على الأسباب التي جعلت الحياة في البلاد التي يحكمونها بهذه المعاناة التي تبدو معها المنافي ، بكل ما يعتورها من قسوة ومعاناة وحزن وابتلاء ، ملاذاً عند مغادرة أوطانهم ، وراحوا يقارنون بين معاناة الناس في الداخل وكيف أنهم صابرون ومحتسبون ، بينما أصحاب المنافي يعيشون في عيش رغيد ، كل ذلك بهدف تحويل المعركة إلى مسار مختلف بعيداً عن جذر المشكلة التي تتمثل في الطغاة والفاسدين الذين تسببوا في معاناة الجميع . وبدلاً من توحيد الجهد لمقاومة هولاء المتسببين في معاناة الصامدين والمنفيين معاً ، فإن الخطاب الذي كان يسوق دائماً يقوم على تعبئة الصامدين ضد المنفيين ، وهو الخطاب الذي يسوقه المنتفعون من النظام على حساب المقهورين والمشردين . 

لقد انطوى هذا الخطاب على تزييف الحقائق فيما يتعلق بالمنافي ، الأمر الذي كثيراً ما انطلى على المتعبين والمضطهدين الباقين في وطنهم ممن كانوا في الاساس ضحية هؤلاء الطغاة .

 لا يوجد منفى مريح !! المنفى هو المنفى ، لا يضاهي الوطن شيء في هذه الدنيا . ولا توجد قوة على الأرض قادرة على انتزاع الوطن من أعماق الانسان .. تشرد الكثيرون وحملوا أوطانهم في أعماقهم وفي ضمائرهم ، وعملوا على استعادته بكل الوسائل . 

لا ننكر أن هناك من جعل المنفى وسيلة لضرب القيمة الكفاحية للانسان في التمسك بوطنه ، وهولاء قلة ، يشبهون في سلوكهم ووظيفتهم ما يقوم به أصحاب الخطاب الذي يروج للصدام بين المقهورين والمتعبين في أوطانهم والمنفيين عنها . وهو أمر لا يشفع لمن يريد الاساءة لأولئك الذين تركوا أوطانهم مجبرين ومطاردين .

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد ، فالخطاب الذي يعمل على سحق المنفيين ، والغائهم من ذاكرة الوطن ليقذف بهم خارجه إلى الأبد ، يطلق ، بدرجة كبيرة من خلال تطبيق سيكلوجيا المعرفة الاعلامية التي تقلب الحقائق ، في وجه المشرد والمطارد من وطنه بحكاية عجزه عن استرداده بقوة السلاح ، في عنوة ظاهرة لتمجيد الحروب التي تحيك مفرداته وتصوغها على ذلك النحو الذي يستضعف كل أشكال المقاومة الأخرى للاستبداد ، ويتجاهل حقيقة أن الذين قمعوا أحلام الشعوب بقوة السلاح ، و"انتصروا" بالحروب لم يكونوا سوى ظاهرة مؤقتة ، ولم يكونوا الأفضل ، ولو كانوا كذلك لكان حال اليمن اليوم غير ما هو عليه اليوم .

دورات الانتصار في الحروب في اليمن كثيرة ، لكنها لم تخلق يمناً مستقراً وسعيداً حاضناً لأبنائه ، بل كانت باعثاً للبحث عن المزيد من المنافي . لم تكن الحروب تحمل مشروعًا للحياة ، بقدر ما ظلت حبلى بالانتقام والانتقام المضاد ، وبين ثناياها تختبئ مشاريع استبدادية فاسدة كانت تنتهي بالقتل والخراب وانتاج المزيد من الدمار . مقاومة هذه الحروب الغاشمة لن يكون بحرب غاشمة من نفس النوع وإنما بمشروع وطني شامل يكون السلاح والقوة جزءاً منه ،

ولن يصلح حال اليمن إلا بهزيمة الحروب الغاشمة ومدمنيها القادمين من أصلاب مشاريع وأيديولوجيات مغلقة ومفلسة ، ويدركون أنهم يقفون في الاتجاه الخطأ من التاريخ ، وأن التوافق على أسلوب مشترك للحياة ، تحميه إرادة الجميع ، هو الطريق إلى الاستقرار والحياة الكريمة ، وسيكون الوطن ، مهما كانت مصاعبه ، هو المقر المريح ، لا المنافي، الذي يجد فيه الانسان سعادته .