
د عبدالقادر المحوري
الحلقة الثالثة
ليس غريبا أن يأسرك مكان ما في هذا العالم الفسيح فتشعر نحوه بألفة عجيبة ورابط عاطفي متين كأن بينك وبينه عهدا قديما بودابست بالنسبة لي هي ذاك المكان المدينة التي كلما وطئت أرضها أو حتى مر ذكرها في خاطري شعرت بدفء يغمر الروح وكأنني أعود إلى بيت قديم أعرف كل زاوية فيه فمهما جبت الدنيا شرقا وغربا ومهما تنقلت تبقى بودابست في قلبي حكاية خاصة وبوابة أولى عبرت منها نحو معرفة الذات والعالم
لقد زرت مدنا كثيرة رأيت ناطحات السحاب في أمريكا وتجولت في أزقة أوروبا العتيقة حيث يهمس التاريخ بكل حجر وسحرتني أضواء شرق آسيا وزحامها الصاخب واحتضنتني رمال الوطن العربي بدفئها وأصالتها في كل مدينة كنت ألتقط جمالا ما أو درسا جديدا لكن شيئا في بودابست يختلف ليس جمالها في مبانيها العتيقة ووقار جسور الدانوب التي تصل بين ضفتيها كخيوط من نور تربط الماضي بالحاضر رغم ندرة بصمات حداثتها الجديدة اذا ما استثنينا بصمات العرب الجديدة فيها ومنها صرح مجموعة ألحبتور بلس رجل الاعمال الاماراتي الشاخص في المدينه كاستثمار سياحي ملهم بل يكمن جمال بودابست الحقيقي في كونها أول وجهة سافرت إليها خارج الوطن بحثا عن العلم والحياة هناك على ضفاف الدانوب بدأت أول فصول حكاية الشباب والطموح
أتذكر ذلك الشاب الطامح الذي كنته يوم وطأت قدماي أرض بودابست للمرة الأولى كان قلبي مزيجا من الخوف والحماس بشوق إلى المجهول حملت حقيبة كبيرة لا زلت أذكرها رحم الله أبي وأمي كانا يرافقاني للتوديع إلى بوابة مطار عدن في لحظات وداع مؤلمة كانت بالنسبة لهم وقد يكون الأمر مختلفا لنفسي التواقة للأحلام وعبرت بوابة المطار كمن يعبر بوابة قدره يومها بدت لي المدينة كلوحة ساحرة ألوانها غير مألوفة وربما كان السبب هو نسمة الخريف العليلة حين وصلناها انذاك في شهر سبتمبري لاينسى
لا زلت أتذكر الباص الذي أقلنا من مطار بودابست إلى سكننا المفترض وتعليقات فلحه والطوحري الفكاهية في رحلة العبور وبالمناسبة كنا الثلاثة في مقاعد متجاورة في رحلة السفر على متن طيران اليمداء آنذاك
في بودابست عشت سنوات حافلة بالدراسة والتجربة هناك تعلمت ليس فقط في قاعات الدراسة بل في شوارع الحياة تعلمت لغة جديدة وصادقت أناسا من ثقافات وأجناس مختلفة فانفتحت عيناي على ثقافات شتى وازداد وعيي باتساع العالم كان كل يوم يحمل مفاجأة صار لي في تلك المدينة أصدقاء وأماكن وغدت شوارع بودابست وجسورها وحدائقها أجزاء مني وأليفة الي
ومع مرور الزمن صارت لدي ذكريات صغيرة أحتفظ بها لتلك المرحلة ما زالت في أدراجي أوراق قديمة ودفاتر ملاحظات امتلأت بأحاديث الأيام الخوالي أقلب صفحاتها بين حين وآخر فتنبعث من بينها رائحة الماضي هنا تذكرة قطار قديمة بطاقة مواصلات طلابية مخفضة تحفظ تاريخا ويوما ذهبت فيه لزيارة صديق وهناك بطاقة بريدية عليها صورة البرلمان المجري أرسلها لي زميل الدراسة بعدما فرق بيننا التخرج والسنوات وفي صفحات دفتر آخر أرى أرقام الهواتف الأرضية كتبتها بيد مرتجفة يومها لأول مرة أرقام أصدقائي وعناوين السكن وملاحظات بخط طالب مجتهد حتى الرسائل الورقية التي تبادلناها قبل زمن البريد الإلكتروني ما زلت أحتفظ ببعضها حروفها باهتة لكنها تحمل نبض قلوب بعيدة كان يجمعها حنين واحد إلى أوطاننا وإلى أيامنا في بودابست
إن تصفحي لتلك الأوراق والصور القديمة أشبه برحلة عبر الزمن كل سطر فيها مصباح يضيء زاوية من الذاكرة أسماء أصدقائي المجريين من زملاء ذلك الزمن ما زالت منقوشة في الذاكرة كم من مرة قلبت في ألبوم صورنا الطلابية هناك أتأمل وجوهنا الضاحكة تحت سماء هنغاريا فأكاد أسمع صدى ضحكاتنا يتردد في ساحة الكلية وأروقة السكن بعض الوجوه غابت عنها ملامح الشباب الآن وحفرت تقاسيم الزمن مساراتها لكن صورتها في خاطري لا تشيخ أبدا والأماكن التي جمعتنا مقهى ومطاعم التونداء جهمص السوناتا الابلاء الكدفش الجونار النمرود الكورتير وغيرها من أماكن وحدائق وملاهي عامة احتضنت أحلامنا تلك الأماكن تحولت في الذاكرة إلى رموز لدفء الصحبة وصدق العمر الأول رغم أن بعضها اليوم لم يعد كما هو بل تحول إلى مبان جديدة وأنشطة مختلفة سأرفقها لكم في بعض الصور
لهذا أشعر نحو بودابست بوفاء خاص لا يشبهه وفاء في بودابست أدركت أن القلب قادر على أن يتسع لمدن كثيرة كما يتسع لأحباء كثر لكنه يحتفظ بمكان فريد لأول حب مكاني إن صح التعبير بودابست كانت ذلك الحب الأول لمسافر على دروب العلم أعطتني بلا مقابل فمنحتها عهدا أبديا بالذكرى والامتنان والزيارة كلما استطعت إلى ذلك سبيلا ً كلما تحدثت عنها أمام الآخرين أجدني أصفها بحماس المحب الوفي وأروي قصصها كمن يروي عن فرد من العائلة وربما لهذا لم تغادرني تلك المدينة أبدا حتى وإن غادرتها جسدا فإن روحها تسكن روحي حيثما حللت
لقد عاد القلة منا نحن رفاق تلك المرحلة إلى بودابست بعد عقود من الزمان ظننا أننا سنجد المدينة كما تركناها لكن الزمن كان له رأي آخر تبدلت بعض معالمها ووجوهها وكسا الشيب ملامح شوارع عرفتنا وعرفناها في تلك الزيارات أدركت حقيقة عميقة سنة الحياة أن نمضي قدما في مراحل ومحطات نترك فيها أثرا ونأخذ منها ذكرى ما من شيء يظل على حاله نحن نتغير والمدن أيضا تتغير لكن الذكريات تظل حية فينا تطفو على سطح الوعي كلما مررنا بنفس الأماكن أو حتى مرت الأماكن في مخيلتنا ربما لم تعد بودابست اليوم كما كانت في زمن دراستي وربما لو تجولت في أروقتها الآن لشعرت ببعض الغربة لأن الوجوه تغيرت لكنني واثق أنني ما إن أجلس على ضفة الدانوب أتأمل المياه التي لطالما حملت أسرارنا حتى ينبعث في صدري ذلك الشعور الأليف ذاته ذلك الدفء القديم الذي لن أجده في أي مكان آخر
وهكذا هي الحياة مراحل نخطوها وذكريات تبقى معنا وكلما مضينا في العمر وطالت المسافات بنا يبقى في أعماقنا ذلك الطالب الصغير الذي حمل حقيبته يوما وغادر وطنه نحو المجهول أول مرة يحمل ذلك الشاب في داخله امتنانا لا ينضب لأول مدينة احتضنت أحلامه وشرعته على العالم فمهما تناقلتني البلاد ستظل بودابست بالنسبة لي أكثر من مجرد مدينة إنها جزء من كياني وذاكرتي صفحة نابضة من فصول حياتي كلما قلبها الحنين أزهرت في القلب ورود الشوق وعبق الماضي الجميل.