الحلقة الأولى
فارس العدني
عندما تغيب الحقيقة، يكثر تجارها، وتضيع بوصلة الاتهامات في دروب المصالح والتوظيف السياسي. كل طرف يتنصل من المسؤولية، ويرمي بها على خصومه، وكأن الوطن لم يكن يحترق، وكأن الشعب لم يُدفع إلى أتون حرب لم يخترها.
لكن السؤال الجوهري الذي لا يزال يتردد منذ سنوات دون إجابة شافية هو:
كيف دخل الحوثي صنعاء؟ ومن سهّل له الطريق من صعدة إلى قلب العاصمة؟
السقوط المريب لقبائل حاشد
كان الطريق من صعدة يمر عبر مناطق تسيطر عليها واحدة من أقوى القبائل اليمنية: حاشد، التي مثّلت لعقود ذراعًا عسكرية وسياسية ومالية وازنة في معادلة الحكم. وكان يكفي وقوفها ليتشكل جدار صد يصعب على الحوثيين اختراقه، لا سيما أنهم لم يكونوا دولة ولا جيشًا نظاميًا، بل مجرد جماعة مسلحة.
ورغم ذلك، سقطت هذه المناطق تباعًا دون مقاومة تُذكر. لم يكن السقوط مفاجئًا فحسب، بل مريبًا في توقيته وسياقه. القيادي في حزب الإصلاح، حميد الأحمر، قالها صراحة في تسجيل تلفزيوني موثق قبيل مؤتمر الحوار الوطني: “صعدة عادت إلى حضن الوطن”، وهو تصريح يعكس تحولًا سياسيًا مريبًا تجاه الجماعة التي فجرت منازلهم لاحقًا وشردتهم.
سقط الإصلاح بين خيارين: إما الخيانة في الداخل، أو الاستسلام نكايةً بمشروع الدولة الاتحادية الذي كان يقوده الرئيس عبدربه منصور هادي، والذي اعتبروه تهديدًا مباشرًا لنفوذهم التقليدي.
صالح… الرقصة الأخيرة
في الجانب الآخر، كان الرئيس السابق علي عبدالله صالح يدير آخر فصول اللعبة بدهاء، لكن نهايته كانت مأساوية. صالح الذي تنحى بفعل ثورة شعبية وخرج عبر المبادرة الخليجية، رفض مغادرة صنعاء، وفضّل أن يبقى “اللاعب الخفي” الذي يدير الخيوط من الخلف.
تحالف مع الحوثيين – خصومه السابقين – في خطوة هدفها إسقاط الجميع: خصومه من الإصلاح، والدولة التي تمثلها الرئاسة الانتقالية، وحتى حلفاؤه السابقون. أراد أن يعود إلى الحكم من بوابة الفوضى، لكنه سقط غدرًا بسلاح الحرس الجمهوري الذي سلّمه بيديه للحوثيين.
في أحد اللقاءات المصورة، قال علي البخيتي إن صالح هو من وجّه قادة وحدات عسكرية موالية له، وشيوخ قبائل، بتسهيل دخول الحوثيين إلى صنعاء. بل وجه عناصره في الوحدات العسكرية بعدم المقاومة، وبعض الجنود خلعوا الزي العسكري وانضموا للحوثيين، في مشهد خيانة مكتمل الأركان.
ورغم هذا الاعتراف الصريح، لا يزال علي البخيتي يحمل ضغينة شخصية تجاه الرئيس هادي تعود إلى الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الحوار الوطني، في 18 مارس 2013، حين قاطع البخيتي كلمة الرئيس في مشهد استعراضي، فقابله هادي بعبارة حاسمة ستبقى محفورة في ذاكرة اليمنيين:
“اطلع برع”
لم تكن مجرد ردة فعل، بل موقف دولة في وجه مهزلة، كشف بوضوح موقف هذه الجماعة من النظام والدولة والقانون.
هادي لم يكن خصم البخيتي يومًا، بل كان جدار الحق الذي ارتطم به الصغار دائمًا.
هادي… مشروع الدولة في وجه التحالفات الانقلابية
في هذا المشهد المعقد، وجد الرئيس عبدربه منصور هادي نفسه مكشوف الظهر. رئيس انتقالي لا يملك جيشًا مواليًا، ولا قاعدة قبلية، ولا نفوذ داخل العاصمة، جنوبي شافعي في عاصمة تهيمن عليها نخبة زيدية شمالية موزعة الولاء بين “علي وعلي”: صالح وعلي محسن.
ورغم ذلك، مضى في مشروعه الوطني الواضح: بناء دولة اتحادية عادلة، تنهي سطوة القبيلة والعسكر، وتفتح أفقًا جديدًا ليمن حديث. لم يكن له ظهير محلي كافٍ، لكن المجتمع الدولي والإقليمي أبدى دعمًا سياسيًا واضحًا، وتُوّج ذلك بجلسة لمجلس الأمن عُقدت في صنعاء دعمًا له.
رفض الحوثيون وصالح هذه المعادلة، وتشاركوا في حصار منزل الرئيس هادي في شارع الستين، وقصفه، ووضعه تحت الإقامة الجبرية. لكنه تمكن من الإفلات إلى عدن، وهناك ألقى خطابه الشهير الذي جدد فيه التمسك بمشروع الدولة، ما دفعهم إلى قصف قصر معاشيق المقيم فيه بالطيران في مشهد عدواني فاضح.
يحاول البعض اليوم إلصاق تهمة سقوط صنعاء بهادي، وكأنه هو من فتح أبوابها للحوثيين. لكن الحقائق والتسجيلات والشهادات الموثقة تؤكد أن من سهّل ومهّد وسلّم هم خصوم مشروع الدولة، لا صاحبها.
لم يكن هادي يملك المقومات لخيانة الدولة، التي هو رئيسها بل كان الوحيد الذي تمسك بها حتى النهاية، رغم خذلان الداخل، وتآمر القوى، وسقوط القبائل، واصطفاف المليشيات.
لم يسقط الحوثي صنعاء بقوته، بل سقطت العاصمة بخيانة اهلها ومراكز نفوذها التقليدية الذين اعتقدوا أنهم يلعبون بالورقة الحوثية… فإذا بها تلتهمهم جميعًا.