يغفو النورس هذه المرة بعيدا عن بقاعه المرتفعة ، تهيض جناحاه وهو يحصي أنفاس رحلة تحليق طويلة في سماء الإخراج الأرضي و الفضائي ، ينام النورس في صمت تشيعه ذكريات خالدة هي بعمر فلذة كبده ، بحت رقصة السماوات المفتوحة في جوفه ، لم تعد رحلة الطيران مع عالم الفضاء تحرك وجدان ذلك النورس ، اختار النورس الانكفاء بعيدا عن نظرات التوسل ، فضل الإنزواء خلف غمامات آلامه المبرحة ، لم يقل لنا شيئا مع صيف كبيس يحتضر ، هو هكذا دائما نورس يرتل و يكتب النص ويصيغ كل الألحان ، لم تكُف أنامله الذهبية عن فهرسة سيمفونياته الخالدة مع الإخراج التلفزيوني ، مفكرته شبح مباراة ، وجدانه نشيد شجرة ، لحن طائر يغرد بكل تجليات النورس .
تحت جلد (عادل ميسري) يسكن نورس الخلود ، يتغذى من أنفاسه ويتنفس من رئتيه وينام داخل قفصه الصدري ، لا رحلة شتاء تباغته ، ولا بيات صيفي يلزمه بهدنة مع العمل ، مهما بلغ ذلك النورس في صدر (عادل ميسري) من العمر عتيا سيبقى دائما مهووسا بفكرة السفر الى أعماقنا ، متيما بزوم الإخراج وحب الإخراج ، لن تجرده (جلطة القلب) من ألقابه ونياشينه وعربته المذهبة ، ستدين له كل الأقمار وكل الشموس وكل الأطياف، فعادل ميسري مدونة خلود تمشي على قدمين .
عادل ميسري زاهد في محراب الإخراج ، صامت ، قليل الكلام ، كثير الابتسام ، إذا تكلم تكلم بشفرة أنامله الذهبية ، و إذا تبارى معك في ميدان الحنكة والدهاء أطلق ذلك النورس الكامن في أعماق عربة النقل وعاد من رحلته بكل لقطات الربيع .
أربعون عاما و (عادل ميسري) يقرأ دواخلنا بأنامله ، أربعون عاما وهو يتجول في أحداقنا بلقطة، بفكرة، بلحظة عابرة للزمان والمكان، كان أول وآخر مخرج جنوبي رياضي يحاصر مباريات الدوري بكاميرتين فقط، يطربنا بعرضه البطيء، يعصر الأزرار عصرا ويتلاعب بالمفاتيح كما كان يتلاعب (مارادونا) بالمدافعين، كان (عادل ميسري) أول من أطلق النورس نحو منازلنا عبر برنامج المجلة الرياضية منتصف السبعينيات، كان نابغة في مجاله قبل أن يعرف العالم حرب النجوم والمودم والاستيلاب الفضائي، تعامل مع الإخراج كلاعب محترف، قمة في الانضباط، و قمة في تنوع المواد الرياضية ، و قمة في التجلي وفي منحها نفس وروح البقاء .
ذات صيف ساخن استوطن الجدل ملعب الشهيد (الحبيشي) ، أمر جلل تسبب فيه اللاعب الكبير (جميل سيف) بهدفه المثير في مرمى (الشعلة)، وهو الهدف الذي توج (شمسان) بطلا للدوري على حساب (الوحدة) ، احتكم المتخاصمون بسبب ذلك الهدف للمخرج (عادل ميسري) ، استخدم (عادل) براعته في تطويق لقطة الهدف ، شرحه تماما وحلله وكأنه يخرج شعرة من عجينة ووضع كل الفواصل للحكم على الهدف ، اقتنع الجميع بصحة الهدف ، فدائما عند أنامل (عادل ميسري) الخبر اليقين .
( عادل ميسري) ذاكرته وطن ، وأرشيفه تاريخ ، و عربته الخارجية رصيده الثمين في هذه الدنيا الفانية ، لو أن (عادل ميسري) في بلد غير بلد العميان لكان الآن ينازع (ألفريد هتشكوك) شعبيته ، لو أن (عادل ميسري) منح الحرية للنورس الرابض في صدره ﻷربعين عاما للهجرة لكان اليوم صاحب عقارات وفضائيات تسد عين الشمس ، لكن (عادل ميسري) هكذا أحلامه بسيطه وعلى قد فراش كل مبدع عدني ، لا يحلم سوى بالستر والحياة الكريمة.
والآن هل تعلمون ماذا حل بذلك النورس ..؟ إنه هنا يتألم في صمت ، يبكي في صمت ، يضاجع فراش المرض في صمت ، دخل مستشفى (الوالي) في صمت ، ذبحته جلطة خاطفة في القلب وتعامل معها في صمت ، نظف المستشفى الخاص جيوبه وجيوب أسرته وبقي صامتا لا يتوسل رحمة صديق أو يتسول موقف رفيق ، المحاليل والحقن جعلت من جسده النحيل منخلا وغربالا، ولم يشتك أو يصرخ أو يطلب مساعدة في هذا الزمن الذي يتوالد فيه الأفاقون والأفاكون بنظام الذباب ، كم أنت كبير في عطائك وصبرك على الابتلاء يا (عادل) ، وكم أنت رائع في محنتك التي غيبتنا عنها بعفتك ونزاهتك وأمانتك وطهارتك .
نعم يا (عادل ميسري) نحن جاحدون لأننا لا نبيع لك سوى الكلام ، نحن نهرع نحو شفاة غليظة يتساقط منها فتات مولانا، نجري جري الوحوش للفوز بغنيمة تصريح منافق من الوزير (النطيحة) والوكيل (المتردية) ، أما أنت بسم الله ما شاء الله زاهد في كل شيء ، انكفأ نورسك في صدرك لأنه يشعر أن سمائه ملبدة بالغربان والبوم والجراد ، انكمش داخلك شبحك لأنك عرفت أن كل شيء في عدن للبيع حتى الأخلاق والمساوئ وفلتات اللسان ودراويش المقاهي، قد تتآكل أحشاؤك في داخلك وأنت لا ترى أفقا لمحنتك ، قد ينتحر الأمل في قلبك المجهد بحكم أن لا أحد طرق أبوابك وسأل عنك من باب رد الزيارة ، قد تلتهم خلاياك حرقة الفراق ، قد وقد يا (عادل) لكن الله يمهل ولا يهمل ، سلم قلبك الباذخ الألم لله عز وجل وسيدبر الأمر ، لا تركن لعصابات الشوارع وهم يسرقون أفراحنا في عز النهار ، لا تنتظر غرابًا في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون ينعق أمام نافذة غرفتك.
دعنا يا (عادل) نقبل أناملك الذهبية التي غرست في قلوبنا نشيد العمل الصادق ، دعنا يا (عادل) نلوك معاناتك مع المرض ونقاسمك الصمت دمعة دمعة ، دعنا نشجب ونستنكر تجاهلك من طرف حكومة كل قيادات وزارة إعلامها يولولون زورا وبهتانا ، دعنا يا (عادل) نمنح نورسك بقايا عشق ، بقايا صبر من عرقنا ودموعنا وأحلامنا ، (عادل ) دع نورسك يغرد بابتهالات الفجر السافر ، دعه يؤنس ليلنا العاري ويهدينا من عبق غرفة الإخراج جل من نفس الصباح ..!