قضية فلسطين هي قضية العرب الأولى، كما أنها قضية المسلمين وكل إنسان يمتلك ضميرًا وإنسانية، وبالإضافة للأبعاد القومية والدينية وغيرها بالنسبة للعرب والمسلمين فإنّ حجم الظلم الذي وقع ويقع على الشعب الفلسطيني لا يساويه أي ظلم. شعب سُرقت أرضه وطُرد منها وعاش معظمه في مخيمات اللجوء 75 سنة حتى الآن، وتعرّض للإبادة الجماعية وانتهاك حقوقه الإنسانية، ويعيش دون أمل ودون حماية في مواجهة الجرائم والانتهاكات المستمرة من عدو غاشم، إرهابي ونازي وعنصري، محمي بقوى كبرى ومدجج بأعتى الأسلحة وأقواها لا يتورع عن استخدامها ضد أطفال ونساء ومدنيين عزّل وضد الشجر والحجر دون رادع أو خشية من عقاب أو مسألة.
هذا الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني يجعل كل من يناصر فلسطين وشعبها المظلوم ويقف مع مظلوميّته بفعلٍ أو قولٍ، ومهما كانت نواياه ومقاصده وأهدافه، محل ترحيب ودعم وتشجيع من كل فلسطيني وعربي ومسلم وكل صاحب ضمير حي في العالم، ولهذا لطالما كانت القضية الفلسطينية مجالًا لإثبات هوية وتوجهات أصحاب المشاريع السياسية، مثلما كانت محل استغلال نُظُم وحركات سياسية في الوطن العربي وامتدادًا إلى العالم الإسلامي، وجدت في القضية الفلسطينية وعدالتها ومظلوميّتها مجالًا خصبًا لتعويم مشاريعها أو اكتساب شعبية أو تمرير أجندات خاصة بغطاء القضية الفلسطينية حتى وإن كانت أجندات في جوهرها معادية لنُبل وجوهر هذه القضية العادلة.
ومع ما يعيشه العرب والمسلمون، بل وكل البشر في هذه الأيام من ألم ووخز للضمير أمام ما يجري في غزّة وفلسطين منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 من عدوان صهيوني نازي غاشم - تحت حماية الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية كبرى - قتل وأصاب حتى الآن ما يقارب 100 ألف فلسطيني معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، فإنّ الضمير الإنساني الذي يبحث عن من يدفع هذه المظالم وقف إعجابًا يُحيي مواقف دول قريبة أو بعيدة وفي المقدمة "جنوب أفريقيا" التي رفعت دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد "إسرائيل" تتهمها فيها بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، كما وقف بإعجاب وتشجيع وتفهم لمن ناصر غزّة والشعب الفلسطيني، ومن ذلك "جماعة الحوثي" في اليمن رغم أنّها مليشيا طائفية استولت على السلطة في العاصمة اليمنية صنعاء بالقوة المسلّحة، واستولت على أراضي عدد من المحافظات اليمنية بالغزو والقتل وحاصرت مدنًا وقرى وفي مقدّمتها "تعز" التي لا زالت محاصرة منذ أزيد من سبع سنوات وسجنت وقتلت وعذّبت معارضيها وفجّرت منازلهم أو استولت عليها وشرّدت ملايين اليمنين، وتسبّبت في حروب قتلت ما يزيد عن نصف مليون يمني وكل ذلك بدعاوى الحق الإلهي في السلطة لما يُسمى "آل البيت" وهي دعوة عنصرية طالما واجهها وقاومها اليمنيون على مدى 1200 سنة منذ وصول "الهادي الرسي" إلى "صعدة" من خارج اليمن يدعو إلى الإمامة لمنح السلطة له ولنسله وليكرّس نظامًا عنصريًا سلاليًا استعلائيًا ويتسبب في تخلّف اليمن وإدخالها في حروب طاحنة منذ ذلك التاريخ وحتى قيام ثورة "26 سبتمبر/أيلول 1962" التي قضت على آخر نسخ "الإمامة" ممثلةً في "بيت حميد الدين" بدعم وتأييد من؛ جيش مصر عبد الناصر البطل، قبل أن يظهر مجددًا "الحوثي" من "صعدة" عام 2004 بدعوته المسلّحة ويخوض 6 حروب مع الدولة قتل فيها عشرات الآلاف، حتى مكّنته الظروف وتفكّك الدولة من الاستيلاء على "صنعاء" عام 2014، ولا زال حتى اليوم يرفض متطلبات السلام الذي يعيد لليمن أمنه واستقراره ودولته المدمّرة والمسلوبة.
وما قام به "الحوثي" في نصرة غزّة ليس بجديد على موقف اليمن وشعبها العربي من القضية الفلسطينية، فلطالما كانت قضية فلسطين لها الشعبية والأولوية في اليمن منذ أن بدأت هذه القضية، فقد أسهم عدد كبير من اليمنيين في مقاومة الاحتلال والتهويد في فلسطين قبل قيام الكيان الصهيوني 1948، بما في ذلك خلال ثورة 1936، ولا زال عدد من أُسر هؤلاء اليمنيين في فلسطين حتى الآن وبعضهم في مخيمات اللجوء مع أشقائهم الفلسطينيين في الأردن والشتات، كما كانت اليمن من الدول العربية التي خاضت الحرب عام 1948 ضد العدو الصهيوني على أرض فلسطين ولا زالت بسبب ذلك من الناحية القانونية في حالة حرب مع هذا العدو، وفي "حرب 1973" أغلقت اليمن بشطريها آنذاك "باب المندب" في وجه الكيان الصهيوني التزامًا بموقفها القومي من الصراع وتعاونًا مع مصر وردًا لجميلها القومي وتضحياتها وإسنادها للشعب اليمني وثورتيه في الشمال ضد "الإمامة" وفي الجنوب ضد "الاستعمار البريطاني".
وقد حرصت الأنظمة في اليمن على تعاقبها على هذا الموقف التزامًا بموقف الشعب اليمني أو سعيًا لشعبية وكسب تأييد الشعب، أو تعبيرًا عن موقف قومي فطري أو استغلالًا بانتهازية لقضية لها هذه الشعبية أو لهذه الأسباب معًا.
موقف "الحوثي" ليس جديدًا على مستوى الموقف اليمني ولا يخرج عن هذا السياق، غير أنّ "الحوثي" كونه جماعة ومليشيا وليس دولة، لديه حرية أكبر في الممارسة قد تبدو بالنسبة للبعض "بطولة" أمام ما يراه العالم من مظلومية الشعب الفلسطيني، خاصة لمن لا يعرف عن "الحوثي" ولا عن "مظلومية الشعب اليمني"، حتى ولو كان ما يحدث لا يخرج عن قواعد اشتباك أصبحت معروفة ومعلنة بين إيران ومحورها وأتباعها وبين أمريكا؛ فالعامل الإيراني لا يمكن إغفاله في موقف "الحوثي" مما يدور.
وهنا لا بد من الإقرار أنّ إيران ستخرج الكاسب الأكبر من حرب غزّة، فهي من ناحية ظهرت أنها المناصرة للقضية الفلسطينية العادلة، ومن ناحية أخرى كرّست قواعد اشتباك ولم تدخل في مواجهة حقيقية مع العدو الصهيوني أو الولايات المتحدة ولم تواجه منهما ومن الغرب عمومًا ما واجهته الأنظمة القومية العربية، وإلى ذلك خاضت هذه المواجهات خارج أراضيها وبيد أدواتها وأتباعها ومناصريها في المنطقة العربية، وأكدت أنها صاحبة نفوذ يجب أن يعمل له حساب، ويتعاظم هذا المكسب مع تخلي النظام الرسمي العربي مجتمعًا، والأنظمة العربية منفردةً، عن قضية فلسطين ووقوفها متفرّجة على حرب الإبادة الجماعية لشعب شقيق أعزل.
والحقيقة أنّ إيران كانت الكاسب الأكبر من القضية الفلسطينية بعد أن جرى القضاء على الأنظمة العربية القومية التي تبنّت القضية العربية أو تحييدها، بوسائل شتى الواحد تلو الآخر في مصر والعراق وسوريا وليبيا والجزائر، وإضعاف وتمزيق الدول العربية والنظام الرسمي العربي، مما مهّد الطريق أمام إيران وجعلها تقف منفردة في تبني القضية الفلسطينية ومن خلالها استولت على أربع عواصم عربية وتمكّن أتباعها في هذه الدول من استغلال القضية لإقصاء كل المكوّنات الأخرى، ويتم استبدال الدول بالطوائف والجيوش بالمليشيات.
في هذا السياق رفع "الحوثي" منذ عام 2004 شعاره "الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل"، وحتى اللحظة لم يُقتل أحد من "الأمريكيين" أو "الإسرائيليين" وإنما كان الموت من نصيب اليمنيين.
ومع ذلك من منطلق حجم المظلومية التي تُشكّلها القضية الفلسطينية، فإنّ إغلاق الحوثي لباب المندب في مواجهة السفن الصهيونية أو تلك المتوجهة نحو العدو الصهيوني يمكن اعتباره "حسنة" للحوثي لدى جمهور يمني وعربي وإسلامي وإنساني يرى بشاعة ما يحدث في غزّة ويبحث عن نصرة لها، رغم ما أثاره هذا الموضوع من جدل لدى اليمنيين يمكن معرفته من مواقع التواصل الاجتماعي بالنظر لتاريخ الحوثي وما تسبّب به لليمنيين، مما سبق تناوله.
كما أنّ العدوان الأمريكي البريطاني الغاشم ضد اليمن تحت ذريعة التصدي للحوثي قد لقي إدانةً ورفضًا من اليمنيين والعرب ولم يبتهج له أحد – ربما - سوى الحوثي نفسه الذي يهمّه تكريس مظلوميّته وادعائه أمام مناصريه منذ بدء عدوانه على اليمنيين عام 2004، أنه يحارب أمريكا، وتأكيدًا لمقولة ابن خلدون "الطغاة يجلبون الغزاة"، فهو عدوان، ليس له علاقة بـ"الحوثي" الذي تؤكد أمريكا وبريطانيا دون انقطاع أنها ليست على خلاف معه، بعد أن حمته فيما مضي في أكثر من محطة خلال المواجهة مع الحكومة الشرعية والتحالف العربي، ومنها عندما كانت قوات الحكومة اليمنية في "نقيل بن غيلان" على أبواب صنعاء، ومنها عندما كانت قوات الحكومة اليمنية داخل "مدينة الحديدة" على بُعد كيلومترات من مينائها، ومنها عندما ضغطت أمريكا وبريطانيا لتوقيع اتفاق "استوكهولم" الذي أطال في عُمر الحوثي والحرب اليمنية، التي يُراد استمرارها ذريعةً لاستنزاف اليمنيين للاستيلاء على الممرات والجزر في هذا البلد بموقعه الهام، واستنزاف السعودية ودول الخليج.
كما أنّ العدوان البريطاني الأمريكي ليس له علاقة بحرية الملاحة وأمن الممرات المائية، وقد أدركت دول العالم ذلك بما فيها مصر ودول الخليج التي رفضت المشاركة في تحالف دعت إليه الدولتان وأكدت جميعًا بما فيها السعودية أنّ ما يجري في البحر الأحمر له علاقة بما يجري في غزّة، ومن ثم فإنّ هذا العدوان المدان والمرفوض هو عدوان من أجل العدو الصهيوني وليس لأي سبب آخر ولا يحمي أي حق أو يواجه أي باطل.
وما لم تنفلت الأمور من يد الجميع، وإذا ما انتهى الغرض من هذه المواجهة، فلا الحوثي سيواجه أمريكا وبريطانيا ولا سيستمر عداؤهما لبعضهما كما لا يخفيان ذلك الآن رغم الصواريخ التي انطلقت من الجانبين وسيبقى شعار الحوثي ويبقى التخادم والحماية للأهداف المعروفة وقواعد الاشتباك المحددة، وستخرج أمريكا كاسبة لهيمنة عسكرية في أهم مضيق مائي بالإضافة إلى ما حققه لها عمل الحوثي من الإضرار بمصر والضغط عليها اقتصاديًا في أحد أهم مواردها "قناة السويس"!.
الخلاصة؛ إذا كان موقف الحوثي في نصرة غزّة، بالنظر لتأييد الشعب اليمني ونصرته لفلسطين وموقفه التاريخي من القضية وتقدير كل صاحب ضمير حيّ، هو من الحسنات فإنها لا تُذهب سيئاته وجرائمه في حق الشعب اليمني التي جعلت بعض الناشطين اليمنيين المستغربين والمستنكرين عدم فهم العرب ما ارتكبه الحوثي في حقهم يقولون إنّ ما يحدث لهم من الحوثي لا يقل عما يحدث لأشقائهم الفلسطينيين، وخاصة إنّ الحوثي في الوقت الذي كان يرفع شعار الدفاع عن غزّة وإغلاق باب المندب لم يتردد باستغلال ذلك والهجوم على "تعز" التي يحاصرها وعلى "مأرب" و"شبوة" و"الجوف" و"الضالع" و"الساحل الغربي"، ويعتقل المعارضين والناشطين ويصادر منازلهم.
أمام الحوثي الكثير ليُثبت أنّ موقفه من قضية فلسطين ليس استغلالًا لها لتبييض سيئاته واستمرار جرائمه في حق اليمنيين واستمرار استيلائه على الدولة ورفض السلام، ومهما كانت حسنات مناصرة الشعب الفلسطيني المظلوم فهي لا تذهب بالسيئات، وفي الفقه الإسلامي تفسيرًا للآية القرآنية الكريمة، فإنّ الحسنات لا يُذهبن السيئات إذا كانت السيئات من الكبائر، وقد ارتكب الحوثي في حق الشعب اليمني كل الجرائم والكبائر بكل المقاييس الوطنية والدينية والقانونية والحقوقية والإنسانية!.