ليالي عدن: رواية كُتِبت لتعيش

   الكتابة هي لحظة استشهاد، ينفصل الكاتب الناجح عن عالمه وقت الكتابة، ويستطيع أن يجعل القارئ يعيش تفاصيل هذا العالم الذي صنعه، ولا يخلو يوم من أيامي في المهجر، إلا وأسافر مع أحد الكتب وأغوص في عالم الكاتب وأناقشه في بنات أفكاره، سواء كان الكتاب أدبياً أو علمياً معقداً أو بحثاً منشوراً. هذا الأسبوع، سافرت الى يمني الحبيب عبر كُتابه ومؤلفيه، فوقعت عيني على رواية "ليالي عدن" للروائية شذى الشعيبي، شدني الاسم لما لهذه المدينة الساحرة التي لم يكتمل سحرها بعد، حسب تعبير الكاتبة، من تأثير على القلب. ربما لأني أنا ابن الريف والبحر معاً، ابن مدينةٍ ساحلية (الحديدة) – راقبتُ في مهد العمر شطئان البحر وارتجاف امواجه في الليل، وقبل شروق الشمس وحين الغروب. أغلقت بحثي الذي كنت أعمل فيه في مجال التحولات الرقمية، وبدأت السفر مع الرواية، متيقناً أن هذا الشهر هو شهرٌ عدني بامتياز، فقبل أيام كنت انهيتُ قراءة رواية "ابنة سوسلوف" لحبيب سروري التي سأكتب عن دهشة التفاصيل فيها فيما بعد، ويا للمفارقة، كنت بدأت أكتب عن رواية حبيب سروري وأقول، ليته تطرق للهجة العدنية والغوص في محلياتها الثقافية حتى يكتمل المشهد الاجتماعي/الثقافي العدني، لكني لم ابتعد كثيراً فوجدت ما تبقى لي من فضول في " ليالِ عدن" وغصت في تفاصيلها الى آخر قطرة حبر خُط على صفحاتها البالغ عددها 212 صفحة من القطع المتوسط. نظرة عامة عن الرواية تعتبر "ليالي عدن" رواية اجتماعية تحمل في طياتها الفكر الثوري التنويري، حتى أن القارئ يستطيع أن يروي نهمه لمعرفة بعض المصطلحات مثل " الدحباشي"، و تستطيع مثل هذه الروايات أن تحل ما عجزت عنه السياسة، حيث تُبدي دور العلاقات الاجتماعية والاسرية في توطيد الوشائج الاجتماعية بين الاسر اليمنية، وهنا أتذكر كتاب "الأسرة اليمنية" لكاتبه حسن القاضي، الذي وثق فيه الوشائج الاجتماعية بشكل سياسي ثوري بين المجتمع في شمال الوطن وجنوبه. إن أمثال هذه الكتابات والروايات هي التي سيكتب لها البقاء يوماً، لأنها كتبت بعيداً عن التشجنات السياسية والعصبية والحسابات الضيقة، وكُتبت للكتابة نفسها فقط، ولم تغفل الكاتبة أن كل السياسيين ومفتعلي المشاكل قد تتغير آرائهم حين ينالون مبتغاهم الشخصي، تماماً كما حدث مع أحد أبطال الرواية " سليمان" حينما تزوج "أمة الملك" واشتراط الوالد "علي " أن يتخلى زوجها المستقبلي عن عنصريته وبناء بيت يماني مليء بمحبة اليمن الكبير والرحمة والخير. مثلت هذه الرواية حالة الشباب اليمني المتخبط بين الحلم والإمكانات المتاحة، ولم يكن كل من أبطال الرواية الثلاثة إلا بحاجة لمن يأخذ بأيديهم عند بداية الطريق، ويوجههم الى طريق الخير والإنتاج، عدا رابعهم الذي لم يحالفه الحظ – وهذا الحال هو شأن الكثير منهم في مجتمعنا اليوم- فأنتهى شبابه وظهر في آخر الرواية وهو يتوسل رفاقه الذين صادفهم على قارعة الطريق بعض المال، ولكم أوجعني هذا المشهد، وتذكرت الكثير الذين لا يطلبون من هذه الحياة إلا إعطائهم فرصة واحدة في أول السُلّم لتحقيق أمنياتهم وطموحاتهم، وأن شبابنا اليمني طاقة عاملة جبارة متى ما توفرت لهم القيادة الرشيدة. وكون كاتبة الرواية امرأة متنقلة الأسفار، إلا أنها لبست ثوب بطلتها " مها" وأبدت استعدادها في أي لحظة أن تعود لتبني وطنها متى ما سنحت لها الفرصة، حيث تحولت "مها" من فتاة قررت أن تترك زوجها لمجرد سوء الفهم الذي حصل بينهما قبل خمس سنوات وعادت الى أمريكا، وغيّرت هناك شكلها وهندامها وثقافتها وثقتها بنفسها حتى تصبح أكثر عصرية وشخصية تتماشى مع العصر، إلا أن كل ذلك لم يغير جوهرها اليماني الأصيل، وبدلاً من عودتها لليمن وطلب الطلاق من زوجها، وجدت نفسها مستعدة للعمل معه في بلادها واستكشاف نفسها الموغلة في يمانيتها من جديد، فحياتها أصبحت مبرزخة بين عقل متطلع لبناء مستقبلها بزواجها من أجنبي -احمد الباكستاني الامركي- وقلب متدفق كالبحر في محبة ابن بلدها ومجتمعها اليمني بصديقاتها (زليخة وقمر وأمة الملك وغيرهم). عنوان الرواية: إن أكثر ما يثير القارئ للوهلة الأولى في هذه الرواية هو عنوانها " ليالي عدن" حيث حضرت المدينة في الرواية كما هو واقعها بلياليها التي لا تنام، وشخصياتها المتسعكة ليلاً على ساحل أبين الذهبي، يبحثون عن اصطياد حلمهم، أو عن ذكرى لهم من كرى الأيام ، وما فتئوا ينتظرون تحقيق هذا الحلم وبناء مستقبلهم بعيداً عن الوظيفة والعمل الروتيني. أطلقت الكاتبة لخيالها أن يرسم الواقع اليمني، فانطلقت من حارات عدن وتفاصيل الحياة بها، وسهرت على شواطئها المترامية وشخصياتها الثلاثة، ثم ما لبثت أن قفزت وتحولت حياة الشاب (زكريا) من اقصى اليسار إلى اقصى اليمين بعد فقد والديه نتيجة قرار اتخذه مع حبيبته التي جاءته كجسد مستباح بلا روح. وقبل أن نغادر عتبة العنوان، نجد أن الكاتبة احسنت اختيار هذا العنوان اللافت وشكلت تناسباً بين العنوان المثير والمحتوى السردي في كل فصول الرواية، بل استطاعت المؤلفة أن تجعل من عدن هي المحور الذي ينطلق الى بقية المحافظات والجهات. في البدء كانت عدن تبدأ الرواية أحداثها من عدن، وتحديداً من ساحل أبين الذهبي أو الشاطئ الذهبي كما يحمل الشاطئ هذا الاسم منذ قرنين من الزمان، و الواقع في مديرية التواهي بين خليج الفيل وجبل هيل، ولم تشرح الكاتبة أين يقع هذا الشاطئ، لأنه من الأماكن المعروفة والمشهورة في بلادنا. لكن عدن كانت بداية القصيد وانتهاء الألم، حيث ظهرت عدن بالمقصقص والخبز بالزبدة والشاي العدني والدروع ( ملابس شعبية نسائية عدنية) والأمثال الشعبية التي تطرقت إليها الكاتبة، موحيةً للقارئ أن اللغة العربية جميلة، لكن أمثالنا الشعبية ولهجتنا اليومية يجب أن تُخلد وتُدون في كتب التاريخ، كما فعلت بعض الروايات اليمنية القليلة منذ ثمانيات القرن الماضي، وظهرت عدن في الرواية كبطلة المكان الحقيقي والمسرح الذي دارت عليه كل الأحداث. الرمزية في الرواية، تطرقت الرواية الى رمزيتها للبحر، تعبيراً عن رغبة الشباب في البحث عن الحرية والهروب المؤقت من أزماتهم، وكأنها تعبر عن مجابهة قسوة الحياة بجمال المدينة. وارتبط لقاء شباب الرواية على شاطئ البحر بشرب الكحول وتجمعاتهم الليلية كرمزية للتمرد على الأعراف الاجتماعية والهروب من واقعهم المعاش، وممارسة خيبات أملهم في جنح الظلام. ثم تطرقت الى الحنين والذكريات في فصول أحداثها، وهذا ديدن اليمنيين إجمالاً، يرحلون عن بلادهم ليقتلهم الحنين والشوق الى أوطانهم. ثم تطرقت المؤلفة الى الألوان كلون البحر وساحل أبين الذهبي ، وهو تعبير مجازي عن دخولها مرحلة جديدة من مراحل الحياة أو مواجهة تحديات جديدة كما فعلت الشابة مها أثناء جلسات العلاج الطبيعي لزوجها، إذ أخذت مها المسألة كتحدٍ تجتازه ثم ترحل الى أمريكا بعد شفائه. وسوف أتوقف هنا حتى أترك مدخلاً للقارئ ليكتشف العلاقة الرمزية في الصراع الفني بين شخوص الرواية. احتشاد في التفاصيل أفسحت الكاتبة مساحة لا بأس بها للوصف، حيث اكثرت من الوصف البصري الذي كاد أن يكون فناً تشكلياً او صوراً فوتوغرافية ظهرت جلية من خلال وصفها لهيئات شخوص رواياتها، فمثلا حينما تقول (لاحظ من بعید تقدم زُلیخة، فھي كما ھي لم تتغیر، نفس النحافة، والھزال، فالإرھاق یظھر جلیاً على وجھھا وكأنھا تحمل جبالاً، اكتسبت بشرتھا السمراء من أشعة الشمس الحارقة والتي أكسبتھا، جاذبیة على جاذبیتھا، فعیناھا رغم صغرھما كانتا واسعتین تحتویھا رموش كثیفة أكسبھا كحل رباني، وأنف صغیر وفم كبیر..الخ). أو حين تقول (إلا أن الحقیقة أجمل بكثیر، فھو طویل وفاتح البشرة، وشعر كاحل السواد مموج وعینان متوسطتان في الحجم وكأنھما مرسومتان، ووجهه طویل، وشنب وذقن طفیفة على وجھه)...الخ. الربط الوجداني بين صنعاء وعدن تكرر هذا المشهد كثيراً وامتلئ بالنصوص الوطنية التي ارتقت بعضها للنص الثوري بأسلوبه الاجتماعي، فظهرت كلمة "الدحباشي" وهو المعنى الرديف لكل أصحاب الفوضى والفساد والنهب والسلب في قصة " زكريا" بخيانة صديقه له " عبدالوهاب" له الذي رمى بما اقترفه من جُرم شرف مع " سماح" واتفاق "عبدالوهاب" وسماح أن تقبل الأخيرة الزواج من هذا الشاب العدني المستجد في صنعاء حتى تداري الجريمة، ولا يقتلها أهلها بارتكابها جريمة الزنا. على النقيض من ذلك ظهرت " أمة الملك" الصنعانية التقية الورعة الحافظة لكتاب الله التي أدت الى هداية "سليمان" وأصبح يتقرب الى الله أن يرزقه إياها، وكذلك والدها " علي حسن" اللذين أفنيا حياتهما في عدن لمساعدة المرضى وانتشال المشردين ومساعدتهم كما حدث مع " زكريا وسهل" إذ ساعدهما على العمل وأصبحا شابين ناجحين جداً في مجتمعها العدني اليمني. كما أظهرت العلاقة أن البيئة الحاضنة لفؤاد في صنعاء والتي لم يحصل عليها في عدن، قد جعلت منه شخصاً ناجحاً يشار إليه بالبنان، وأصبح فتى المراهقة الصايع هو المحامي المفوّه الذي ينشر الثقافة الوطنية عبر مختلف القنوات بين الناس، ويرسم أسلوب الحوار في أن الوطن يتسع للجميع . الحديدة وطريق الموت وكم أحزنني وأنا أقرأ الرواية هو حضور مدينة الحديدة كمدينة للموت، وأن الداخل فيها مفقود، والذاهب إليها لن يعود، ربما أن قدر هذه المدينة هو ما رسمته الأنظمة الحاكمة السابقة من صورة لمدينة الحديدة الكسيرة وتهامة إجمالاً وانغراس ذلك في العقل الباطن لساسة اليمن ومفكريه وكتّابه ومؤلفيه، فلم تحضر الحديدة في الرواية إلا كمدينة للفجيعة والموت، ومع ذلك تحسب للكاتبة نقطة إيجابية في محاولة إظهار مظلومية التهامي الذي يصارع شظف العيش ولا يجد قوت يومه ولا الدواء اللازم والرعاية الصحية الأساسية، كما ظهر ذلك في موت خالة "زكريا"، وموت والديه. وهذه لفتة من الكاتبة وإن كانت سوداوية – سواءٌ قصدت ذلك أم لم تقصده، فقد عبرت عن واقع الحال المعاش في تهامة، لأن الرواية ليست حلاً لواقع البلد بقدر ما هي نتيجة شعور بوجود ظلم على هذه المدينة وأن الرواية ألمحت الى تشخيص المشكلة وليس حلها كما هو شأن الأدب في ذلك. الأبوية في النص احتشدت في بداية الرواية تدخلات الآباء وطريقتهم في تربية أبنائهم، والد سهيل غير المتهاون مع أخطاء ولده ولا حتى أخطاء أصدقاء ولده، ووالدي فؤاد وزكريا، اللذين يستعينان بوالد زكريا في التوجيه والنصح بطريقته الخشنة، ودور والدي زكريا في الضغط عليه بالزواج واختيار الزوجة المناسبة لابنهم مما يعكس التقاليد والأعراف التي مازالت سائدة في اليمن، ودور الآباء في التشديد على أولادهم بضرورة التحصيل العلمي والأكاديمي كوسيلة لتحقيق مستقبلهم، ومن ثم دور الحاج علي والد أمة الملك الذي علمها كيفية الاعتماد على النفس واتخاذ القرارات المناسبة، ومثل هو دور الموجّه والمرشد فقط. العادات الثقافية في الرواية كما تطرقت الرواية الى بعض العادات الثقافية التي ينكرها المجتمع الشرقي إجمالاً واليمني على وجه الخصوص رغم حدوثها في المجتمع، تحت مسمى إن الله لا يحب الجهر بالسوء.. فالسرق يملؤون البلد وما دمر البلاد إلا هم، والعرابيد بأشكالهم متناثرون فيها بكثرة، لكن لو تحدث أحدثهم بمقال أدبي أو رواية لتُركَ الفاعل وجُلد الكاتِب. لقد تطرقت رواية ليالي عدن الى الثقافة المحلية، و اللهجة الشعبية المحكية وتقديمها للقارئ العربي، كما تطرقت الى أن السعادة قد يتم صناعتها بواحد روتي وكوب شاي ومجتمع بخير. وغاصت في بعض فصولها الى دهاليز الروح وتعرجاتها ومقارعة الاقدار التي وقعت أمام أبطال شخصياتها، تماما كما فعل فيكتور هوجو في بؤسائه وغرسيا ماركيز في عزلته التي عنونها بمائة عام من العزلة. كما تطرقت الرواية الى صراع الإنسان اليمني وتقلبات الروح في العيش بين الحداثة والتقليد بسبب الظروف المعيشية والاجتماعية التي انعكست على هويات المجتمع اليمني. إجمالاً، تثري هذه الرواية المكتبة والأدب اليمني، فأمثال هذه الاعمال تدوم مع الأيام، ويكفينا أن تاريخنا اليمني خلال الخمسمائة عام الماضية كان مغيباً من أي كتابات تحفظ تفاصيل البيوت فيه، والحياة الاجتماعية كيف كانت، ولو عدنا بذاكرتنا قليلاً فقط لتاريخ الرواية اليمنية لوجدنا أن رواية " سعيد" هي أول ما وصلنا من الأدب السردي المحكي التي صدرت في العام 1939م لمؤلفها محمد علي لقمان ، ثم غُيّبَ أدب الرواية اليمني لفترة من الزمن الى أن جاءت رواية محمد محمود الزبيري «مأساة واق الواق" في خمسينيات القرن الماضي، ثم محمد عبدالولي في روايته الشهيرة " يموتون غرباء" في سبعينيات القرن الماضي كذلك. لكننا إجمالاً نفتقد الى تاريخنا الاجتماعي والثقافي واليومي المُدوّن قبل رواية سعيد، وليس هذا موضوعنا الآن. لكن بشكل عام، لم نجد أية رواية يستند عليها المجتمع اليمني وينهمك في خصوصياته المحلية كما يفعل الكثير من الكتّاب اليوم. وباعتقادي أن الكاتبة استطاعت أن تحجز لنفسها مكاناً بين هؤلاء الكتاب في استلهام الواقع المعاش واختراق تفاصيله بكل دقائقه وتناقضاته ومتغيراته . ومن هنا ادعو الباحثين الى تسليط الضوء على مثل هذه الروايات التي تؤرخ لحياتنا اليومية وتفاصيلنا الحياتية وتحفظ هوياتنا، والوقوف على مثل هذه الروايات لمختلف الكتاب وأحقية القراءة والاستكشاف، حتى نلملم تاريخنا المفقود لكل مدينة يمنية والخروج بعمل موسوعي لذلك. المباشرة وعاطفية النص لم تعر الكاتبة اهتماماً كبيراً لجماليات النص والتناص وسلاسة اللغة والمحسنات البديعية وأساليب البديع من الكلام، بل انسكبت ككوب ماء يشربه القارئ بلا نكهات أو تحليات لغوية حتى يكون أقرب للواقع، وأن الرواية ركزت على الواقع أكثر من الخيال ، ويستطيع القارئ أن يلمس السرد الواقعي المباشر في هذه الرواية بيديه، وكان بإمكان الكاتبة أن تتلافى ذلك لو أعطت وقتاً أكثر وأفردت لبعض النصوص فيه مساحة كافية تستطيع من خلالها معرفة متى يجب أن يتوقف النص أو يطول، لكن هذه المعضلة يقع فيها كثير من الكتاب اليوم. ونجد أن الكاتبة نقلت مشاعر أبطالها بشكل مباشرة في بعض النصوص، فمثلاً عندما اجتمع الثلاثة متحدثين عن الحياة وأحلامهم أو تذكر فؤاد للأماكن، أو في لحظات اللقاء الحميم بين الأصدقاء سهيل وزكريا عند زيارته له بعد الحادثة أو تدفق زكريا العاطفي لزوجته مها في نهاية الرواية، فالنصوص المباشرة غلبت على الرواية في معظم فصولها. وهنا أستطيع التنويه أن النص الروائي الذي بين أيدينا قد نقل الواقع المعاش لا الخيال المرجو . أخيراً أخيراً من يقرأ لشذى يجد أن هذه الكاتبة تستطيع بين الحين والآخر اختراق المسافة بين الحكمة والثقافة نفسها، والغوص في بعض الأحيان الى كنه الروح ، وتقف كمستكشفة جريئة لحدود العلاقة بين المسموح به واللا مسموح، التقاليد والتجديد، لتستفز بذلك العقل والقلب معاً في بعض حواراتها وتدعو الى التفكير في تحريك المياه الراكدة في أعماق الثقافة التقليدية، ما قد يجعلها معرضة للنقد شأنها في ذلك شأن الكثير من الكتّاب المجددين في مجتمعاتهم. لكنها في المقابل ترجمت ما يدور في الشوارع بين شبابنا في معاناتهم مع الصراعات الداخلية التي يخوضونها عندما يجدون أنفسهم عالقين بين تقاليد الماضي وإمكانيات المستقبل أو غيابه، أو حالة النشوة مع متعة عابرة ينسون بها هموهم ويقتلون بها أوقات فراغهم، وكانت شذى الصوت الذي ساهم في تحريك النقاش وذكر معاناتهم ولو بالوقوف صراحة على مساوئ المجتمع الهدامة مثل الخمر والزنا والضياع وغياب الفرص. كما أن القارئ المتمعن للرواية يجد أن في الرواية شخصيتين بارزتين طغتا عليها وهما شخوص الكاتبة نفسها، فتجدها مرة غارقة بثقافتها اليمنية الأصيلة معتزة بتاريخها الثقافي رغم سفرها الكثير، فما أن تستقر في مكان حتى تودعه الى مكان آخر، وبين الكاتبة المهاجرة المحبة للبلدان المتقدمة كما هو حال " مها" و "كريستين"، ويجد القارئ أن حياة شذى الكاتبة مُبرزخة بين قلب كالنهر وعقلٍ كالبحر، ويا للمفارقة.