كثير منا يغادرون الدنيا وهذه سنة الحياة، ولله ما أعطى وله ما أخذ، ومعظمهم يغادرن بصمت وآخرون يترك رحيلهم ألماً مدمياً في قلوبنا وقلوب ذويهم وأهلهم، بل يتركون بصمات تتحدث عنهم وعن تاريخهم وجهودهم وإنسانيتهم، كرحيل العميد محمد ناصر الجريبية الذي رحل عنا الله يرحمه ويسكنه الجنة، مخلفاً سمعة حسنة وبصمة نجاح في مجال العمل الأمني والإنساني، سيظل يتذكرها من يتقن فنون العمل الأمني والشرطوي، ومن عمل معه أو كان قريباً من مهام عمله وقيادته مسؤولاً أمنياً لمعسكر مخيم خرز للاجئين بمحافظة لحج، ثم مستشاراً لوزير الداخلية.
قد لا يعلم الكثيرون بحجم المأساة التي يعيشها اللاجئون إنسانياً، القادمون من أوطان تحرقها الصراعات وتدمر فيها كل مناحي الحياة وتمزق النسيج الاجتماعي في مجتمعاتهم، ورحلة الموت التي يقطعونها في البحر ليصلوا إلى بلدان تعصف بها الصراعات والأزمات والحروب والفقر، كما هو الحال في اليمن الذي فتح حدوده (اللجوء المفتوح) أمام اللاجئين الأفارقة أواخر الثمانينات، وظلت ملتزمة بهذا النوع من اللجوء فاتحة حدودها لاستقبال وإيواء كل الأعداد الهائلة القادمة من القرن الأفريقي وفي مقدمتهم الصومال، وذلك بالتنسيق مع جهود الأمم المتحدة "المفوضية السامية للاجئين". فتهجيرهم بسبب الحروب من بلدانهم إلى بلد (اليمن) الذي يعيش أسوأ أوضاعه بسبب الأزمات والحروب، وكأنهم هاربون من الموت إلى موت آخر!
علينا أن نتصور حجم المشكلة والاضطرابات والفقر التي تخلق ظروفاً إضافية لتزيد من مأساة اللاجئين، ومضاعفة الظروف وتعقيدها، وبالتالي تخلق عوامل مساعدة لارتكاب الجريمة سواء في مخيمات اللاجئين أو خارجها، وأن نتذكر جهود وحنكة وخبرة الفقيد العميد الجريبية الذي استطاع أن يتعامل مع اللاجئين بمختلف أعراقهم وجنسياتهم ولغاتهم، وكيف استطاع أن يقلل ويحد من ارتكاب الجريمة بإمكانيات شحيحة ومحدودة.
كنت - بحكم عملي الصحفي - أحياناً أرافق المسؤولين في منظمة الأمم المتحددة (مفوضية السامية للاجئين)، في زياراتهم إلى مخيم خرز للاجئين لتفقد أحوالهم ولمشاركتهم الاحتفال السنوي بيوم اللاجئ العشرين من يونيو كل عام، وكان آخرها في 15 يناير 2011م مرافقاً للسيد انطونيو غوتيريش، عندما كان مساعداً للأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (الأمين العام - حالياً)، أتذكر أني وجدت نفسي يومها أمام قوة وصرامة القائد الفقيد العميد محمد الجريبية، عندما تقدم ببلاغه العسكري الأمني لمساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومرافقيه، والحديث الذي دار بينهما حول الجانب الأمني وتدني نسبة ارتكاب الجريمة في ذلك العام، بالإضافة إلى إشادات اللاجئين للضيوف بعمل العميد الجريبية ووصفهم له بالأب الروحي للمخيم.
هكذا يرحل عنا الرجال والقادة العظماء الذين تربعوا في قلوبنا وحجزوا لهم بأعمالهم الإنسانية مكانة عظيمة فيها، كرحيل القائد الأمني الإنساني العميد محمد ناصر الجريبية رحمة الله تغشاه، الذي ترك فينا وفي عائلته وقبيلته، وفي الكثيرين ممن عرفوه، حزناً وأثراً، بل وجرحاً عميقاً لن يندمل، وستبقى سيرته العطرة وقيمه الرفيعة التي تميز بها في حياته متأصلة في الذاكرة الجماعية بعد رحيله، وستبقى سيرته العملية وبصمته الإنسانية وتعاملة مع اللاجئين من الموت إلى الموت عملاً خالداً في الذاكرة
.