في رحاب الأدب بين الوضوح والغموض..

    من السهل أن نكتب كلاما غامضًا لا يفهم معناه وندعي أننا قد ارتقينا بالنص من المباشرة والوضوح الخالي من الرمزية والدهشة إلى الغموض الذي يحلق بنا في عوالم جميلة من التخيل كما يدعي البعض ويزعم وهو لا يعرف الفرق بين الوضوح والمباشرة في النظم الشعري، ولا يميز السهل الممتنع من التقليد، والمباشرة الخالية من الدهشة والإبداع الرصين.

     كم من المرات شعرت وأنا أقرأ بعض النصوص، الشديدة الغموض بان الشاعر قد فقد حبل التواصل بينه وبين المتلقي، والسبب في رأيي الشخصي هو هذه السريالية العقيمة التي يصعب تأويلها وتفكيكها من قبل الشعراء والنقاد، فكيف بجماهير الشعر المتذوقة، وإذا كان الشعر رسالة للمتلقي، ولم تصل الرسالة، فما الغرض إذن من إرسالها!!

   والسؤال هنا أين جمال الشعر، وتأثيره في النفوس، في ظل هذه الرمزية المزعجة، التي تعكر صفو الشعر، وتحيل رياضه الغناء الوارفة الظلال، إلى سجون تحيط بها الأسوار من كل الجهات، تذكرت في هذه العجالة وأنا أكتب عمودي الشهري لمجلة أقلام عربية الراحل الكبير الأستاذ/ محمد مرشد ناجي رحمه الله وكنت قد مررت به في ليلة من الليالي الرمضانية، في منزلة في محافظة عدن، ودار.

   بنا الحديث عن الشعر والنثر والغموض والوضوح قلت له: "هي وقفة لي لست أنسى ذكرها أنا والحبيب…. " فتبسم ضاحكا وقال: ("في ليلة رقصت من الأضواء في ثوبٍ قشيب،" رحم الله الجرادة ما أفصحه وابلغ معانيه! هذا عملاق كبير من عمالقة الشعر والأدب… يا ولدي .. (الديك الفصيح من البيضة يصيح..).

   هي وقفة لي لست انسى ذكرها أناوالحبيب في ليلة رقصت من الأضواء في ثوب قشيب لما التقينا والجوانح لا تكف عن الوجيب فهززته وهو الرقيق كنسمة الفجر الرطيب وغمرته وهو الذي لنداء قلبي يستجيب بعواطفي المتكبره.. ومشاعري المتفجره.

   وشرود وجداني الكئيب جو غنائي سبحنا في محيط من سناه لما اقتعدنا الرمل في قفر ترامى جانباه لمعت بأيدينا الكؤوس وأجرت النغم الشفاه لكنه لحظ اكتئابا فيَّ لم يدرك مداه فرنا إليّ مسائلا ومشت على كتفي يداه دمعٌ بجفني لم يره.. وآسى بصوتي أنكره.. فمضى يلح ولا أجي.

    كان المرشدي والجراده قد اخصبا الساحة الثقافية والفنية بثنائية جميلة في ذات الخال .. وياحبيبي اي عيد أي سعد.. واغان وطنية لا تحضرني في هذه العجالة .

   ثم حاولت مستدرجا المرشدي رحمه الله للحديث عن قصيدة " يا جارة الوادي " وكان يحبها كثيرا، وطالما سمعته يدندن بها وأنا طفل صغير أجلس بجوار والدي رحمه الله وقد كان صديقا للعملاق المرشدي والذي توج هذه العلاقة باختيار قصيدة والدي "بامعك" في مهرجان صيف أبها بالسعودية، ونال جائزة الأغنية الشاملة.

    اعود للحديث عن جارة الوادي وقد أبدع الأستاذ المرشدي في أداء هذه الرائعة وحلق في فضاء الجمال والإبداع الرصين والأصيل ... ثم واصل حديثه، وبلهجته العدنية الجميلة التي تزهو بالفصاحة، والرصانة: " أبن الوز عوام كان والدك رحمة الله عليه يكتب بعامية "دثينة" وبنكهة عدنية أحبها جدا، وأنت تبحث عن الفصيح وتعيدني الى الطرب الأصيل… وأين؟ مع "أمير الشعراء"!.. كأني اسمعها الآن .. بصوت عبدالوهاب .

    قلت: وفيروز ؟ قال: " وفيروز.. طبعا يا ولدي مافيها كلام، هؤلاء أهل الشعر والطرب الأصيل…. شَيّعـتُ أَحْـلامـي بقلـبٍ بـاكِ ولَمَحتُ من طُرُق المِـلاحِ شِباكـي ورجـعـتُ أَدراجَ الشبـاب ووِرْدَه أَمشي مكانَهمـا علـى الأَشـواكِ وبجـانبِـي واهٍ كـأَن خُفـوقَـه لَمـا تلفَّـتَ جَهْشَـةُ المُتبـاكـي شاكِي السلاحِ إذا خـلا بضلوعـه فإذا أُهيـبَ بـه فليـس بـشـاكِ قد راعـه أَنـي طوَيْـتُ حبائلـي من بعـد طـول تنـاولٍ وفكـاكِ وَيْحَ ابنِ جَنْبـي ؟ كلُّ غايـةِ لـذَّةٍ بعـدَ الشبـابِ عـزيـزةُ الإدراكِ لـم تَبـقَ منَّا ، يا فـؤادُ ، بقيّـةٌ لـفـتـوّةٍ ، أَو فَضلـةٌ لـعِـراكِ كنا إذا صفَّقْـتَ نستبـق الـهوى ونَشُـدُّ شَـدَّ العُصبـةِ الـفُتَّـاكِ واليومَ تبعـث فـيّ حيـن تَهُزُّنـي مـا يبعـث الناقـوسُ فِي النُّسّـاكِ **** يا جارةَ الوادي ، طَرِبْـتُ وعادنـي ما يشبـهُ الأَحـلامَ مـن ذكـراكِ مَثَّلْتُ فِي الذِكْرَى هَواكِ وفِي الكَرَى والذِّكرياتُ صَدَى السّنينَ الحَاكـي ولقد مررتُ على الريـاض برَبْـوَةٍ غَـنَّـاءَ كنـتُ حِيالَهـا أَلقـاكِ ضحِكَتْ إلـيَّ وجُوهها وعيونُهـا ووجـدْتُ فِـي أَنفاسهـا ريّـاكِ فذهبتُ فِي الأَيـام أَذكـر رَفْرَفـاً بيـن الجـداولِ والعيـونِ حَـواكِ أَذكَرْتِ هَرْوَلَةَ الصبابـةِ والـهوى لـما خَطَـرْتِ يُقبِّـلان خُطـاكِ ؟ لم أَدر ما طِيبُ العِناقِ على الـهوى حتـى ترفَّـق ساعـدي فطـواكِ وتأَوَّدَتْ أَعطـافُ بانِك فِي يـدي واحـمرّ مـن خَفَرَيْهمـا خـدّاكِ ودخَلْتُ فِي ليلين: فَرْعِك والدُّجـى ولثمـتُ كالصّبـح المنـوِّرِ فـاكِ ووجدْتُ فِي كُنْهِ الجوانـحِ نَشْـوَةً من طيب فيك ، ومن سُلاف لَمَـاكِ وتعطَّلَتْ لغـةُ الكـلامِ وخاطبَـتْ عَيْنَـيَّ فِي لُغَـة الـهَوى عينـاكِ ومَحَوْتُ كلَّ لُبانـةٍ من خاطـري ونَسِيـتُ كلَّ تَعاتُـبٍ وتَشاكـي لا أَمسِ من عمرِ الزمـان ولا غَـد جُمِع الزمانُ فكـان يـومَ رِضـاكِ لُبنانُ ، ردّتنـي إليكَ مـن النـوى أَقـدارُ سَـيْـرٍ للـحـيـاةِ دَرَاكِ جمعَتْ نزيلَيْ ظَهرِهـا مـن فُرقـةٍ كُـرَةٌ وراءَ صَـوالـجِ الأَفــلاكِ نـمشي عليها فوقَ كـلِّ فجـاءَة كالطير فـوقَ مَكامِـنِ الأَشـراكِ ولو أَنّ بالشوق الـمزارُ وجدتنـي مُلْقي الرحالِ على ثَـراك الذاكـي *** بِنْـتَ البِقـاع وأُمَّ بَـرَ دُونِـيِّـها طِيبي كجِلَّـقَ ، واسكنـي بَـرداكِ ودِمَشْقُ جَنَّـاتُ النعيـم ،وإنـما أَلفَيْـتُ سُـدَّةَ عَـدْنِهِـنَّ رُبـاكِ قَسَماً لو انتمت الـجداول والرُّبـا لتهلَّـل الفـردوسُ ، ثـمَّ نَمـاكِ مَـرْآكِ مَـرْآه وَعَيْنُـكِ عَيْـنُـه لِـمْ يا زُحَيْلـةُ لا يكـون أَبـاكِ ؟ تلـك الكُـرومُ بقيَّـةٌ مـن بابـلٍ هَيْهَـاتَ! نَسَّـى البابلـيَّ جَنـاكِ تُبْدِي كَوَشْيِ الفُرْسِ أَفْتَـنَ صِبْغـةٍ للناظـريـن إلـى أَلَـذِّ حِـيـاكِ خَرَزاتِ مِسْكٍ ، أَو عُقودَ الكهربـا أُودِعْـنَ كافـوراً مـن الأَسـلاكِ فكَّرْتُ فِي لَبَـنِ الجِنـانِ وخمرِهـا لـما رأَيْتُ الـماءَ مَـسَّ طِـلاكِ لـم أَنْسَ من هِبَةِ الزمـانِ عَشِيَّـةً سَلَفَتْ بظلِّـكِ وانقضَـتْ بِـذَراكِ كُنتِ العروسَ على مِنصَّة جِنْحِـها لُبنانُ فِي الوَشْـيِ الكريـم جَـلاكِ يـمشي إليكِ اللّحظُ فِي الديباج أَو فِي العاج من أَي الشِّعـابِ أَتـاكِ ضَمَّـتْ ذراعيْـها الطبيعـةُ رِقَّـةً صِنِّيـنَ والحَـرَمُـونَ فاحتضنـاكِ والبـدرُ فِي ثَبَـج السمـاءِ مُنَـوِّرٌ سالت حُلاه على الثـرى وحُـلاكِ والنيِّـرات مـن السحـاب مُطِلَّـةٌ كالغِيـد من سِتْـرٍ ومـن شُبّـاكِ وكأَنَّ كـلَّ ذُؤابـةٍ مـن شاهِـقٍ ** ركنُ الـمجرَّةِ أَو جـدارُ سِمـاكِ سكنَتْ نواحـي الليـلِ ، إلا أَنَّـةً فِي الأَيْكِ، أَو وَتَر اًشَجِـيَّ حَـراكِ شرفاً ، عروسَ الأَرْز ، كلُّ خريـدةٍ تـحتَ السماءِ من البـلاد فِـداكِ رَكَـز البيـانُ علـى ذراك لـواءَه ومشى ملـوكُ الشعـر فِي مَغنـاكِ أُدباؤكِ الزُّهرُ الشمـوسُ ، ولا أَرى أَرضاً تَمَخَّضُ بالشمـوس سِـواكِ من كـلّ أَرْوَعَ علْمُـه فِي شعـره ويراعـه مـن خُلْقـه بـمِـلاكِ جمع القصائـدَ من رُبـاكِ ، وربّمـا سرق الشمائلَ مـن نسيـم صَبـاكِ موسى ببابكِ فِي الـمكارم والعـلا وعَصاه فِي سحـر البيـانِ عَصـاكِ أَحْلَلْتِ شعري منكِ فِي عُليا الـذُّرا وجَمـعْـتِـه بـروايـة الأَمـلاكِ إن تُكرمي يا زَحْلُ شعـري إننـي أَنكـرْتُ كـلَّ قَـصـيـدَةٍ إلاَّكِ أَنتِ الخيـالُ : بديعُـهُ ، وغريبُـه اللهُ صـاغـك ، والـزمـانُ رَواكِ.. والسؤال هنا هل يقارن هذا الشعر الفخم في معانيه وصياغته وجزالته، وفي روعته وأناقته ورقته، في عذوبته ورشاقته ونضارته ببعض النثر أو النظم الغارق في الغموض والسطحية والابتذال في كثير من الأحيان .. ها هي الشمس تقبل وجنة الكلب، والقصة تعرفونها وقد حدثت في نهاية السبعينات حين جاء أحد الشعراء( النظامين) إلى منزل البردوني زائرا، وفي أثناء الحديث أراد الشاعر أن يلفت انتباه البردوني فقال: لقد أتجهت أخيرا وعن قناعة إلى كتابة الشعر الحديث!! واسمعه بعض مقاطع وكان منها مقطع يقول: (الشمس تقبل وجنة حبيبتي)! فقال له البردوني: ياعزيزي ليس في ما أسمعتني أي جديد. فقال الشاعر: ( الشمس تقبل وجنة حبيبتي) هذه صورة فنية حداثية إبداعية!! فرد عليه البردوني ساخرا: ليس في هذا أي جديد، فالشمس تقبل حتى وجنة الكلب! وبغض النظر عن السطحية والابتذال في الشعر التي يقع فيها الكثير من الشعراء فإن جمال الشعر يكمن في سهولة اللغة وعمق المعنى التي لا تقارن بالسطحية والغموض التي طالما ألقت بظلالها على النثائر المنشورة، ولا أقول الشعر المنثور ، حتى لا أخلط بين الشعر والنثر وأنا أتحدث عن الوضوح والغموض في الشعر والنثر وهنا أقف مع الشاعر العربي السوري نزار قباني الذي ملأ الدنيا وشغل عصره بأسلوبه الواضح السهل، الممتنع عن التقليد، وهو من أصعب أساليب الشعر التي يظنها البعض سهله ميسرة وهي رغم سهولتها عميقة المعاني.. ها هو ذا نزار قباني يدهشنا بعاطفة الحنين والفخر والاعتزاز باللغة والحضارة العربية الأسلامية، في بلاد الأندلس، وقد صحت قرونٌ سبعةٌ من بعد سبات طويل، وها هو يقف أمام قصر الحمراء، فيكاد يسمع زخارفه، ورسوماته، في قصيدته الشهيرة التي استهلها منشدا: في مدخل الحمراء كان لقاؤنا ما أطـيب اللقـيا بلا ميعاد عينان سوداوان في حجريهما تتوالـد الأبعاد مـن أبعـاد هل أنت إسبانية ؟ ساءلـتها قالت: وفي غـرناطة ميلادي غرناطة؟ وصحت قرون سبعة في تينـك العينين.. بعد رقاد وأمـية راياتـها مرفوعـة وجيـادها موصـولة بجيـاد ما أغرب التاريخ كيف أعادني لحفيـدة سـمراء من أحفادي وجه دمشـقي رأيت خـلاله أجفان بلقيس وجيـد سعـاد ورأيت منـزلنا القديم وحجرة كانـت بها أمي تمد وسـادي واليـاسمينة رصعـت بنجومها والبركـة الذهبيـة الإنشـاد ودمشق، أين تكون؟ قلت ترينها في شعـرك المنساب ..نهر سواد في وجهك العربي، في الثغر الذي ما زال مختـزناً شمـوس بلادي في طيب "جنات العريف" ومائها في الفل، في الريحـان، في الكباد سارت معي.. والشعر يلهث خلفها كسنابـل تركـت بغيـر حصاد يتألـق القـرط الطـويل بجيدها مثـل الشموع بليلـة الميـلاد.. ومـشيت مثل الطفل خلف دليلتي وورائي التاريـخ كـوم رمـاد الزخـرفات.. أكاد أسمع نبـضها والزركشات على السقوف تنادي قالت: هنا "الحمراء" زهو جدودنا فاقـرأ على جـدرانها أمجـادي أمجادها؟ ومسحت جرحاً نـازفاً ومسحت جرحاً ثانيـاً بفـؤادي يا ليت وارثتي الجمـيلة أدركـت أن الـذين عـنتـهم أجـدادي عانـقت فيهـا عنـدما ودعتها رجلاً يسمـى "طـارق بن زياد"… هل يقارن هذا الهديل المقفى بسحره وعذوبته ومعانيه، ببعض الألغاز التي لا يُعرف لها وزنٌ ولا معنى.. وقديما قالوا: "اذا الشعر لم يهززك عند سماعه فليس خليقا أن يقال له شعرُ."

المصدر: مجلة أقلام عربية