الاخ الرئيس علي ناصر محمد، إطلعنا على موضوعكم الاخير، تحت عنوان (رسالة الى الجاوي)، وتذكرت ما قاله لي المناضل الوطني الغيور، عبدالحميد الشعبي، عضو اللجنة التنفيذية للجبهة القومية، عندما ذهبت الى منزله اثناء وجودي في عدن، بعد اطلاعي على حلقات كتابكم النفيس، بعنوان (ذاكرة وطن: عدن من الاحتلال الى الاستقلال)، وذلك عندما تحدثنا حول كتابك هذا، حيث قال لي الاخ الشعبي بالحرف الواحد: "ان كل ما كتبه الاخ علي ناصر محمد في كتاب (ذاكرة وطن) صحيح 100٪، وحتى وان وجدت بعض الاخطاء البسيطة فهي لا تغير من مضمون الحقائق التاريخية التي تضمنها الكتاب".
وعلى الرغم من ان علاقتي الشخصية بكم (يابس بيابس)، وانا هنا لا احاول ان اضع راسي براسكم، ولكن لابأس ان ذكرتكم بمثال واحد، ليس نبشاً للماضي وانما احقاقا للحق وانصافاً للتاريخ، من انكم قلتم في يوما ما، ان اعضاء اللجنة المركزية قد (عرّت) الشهيد سالمين خلال الدورة السابعة للجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني.. وانا بدوري المتواضع، كعسكري مهزوم، اقول لكم: ان ماكتبتهُ - انت - من حقائق تاريخية في مذكراتكم ومقالاتكم بصورة عامة، وموضوعكم الاخير (رسالة الى الجاوي) بصورة خاصة، لم يكتبه اياً من اعضاء الحزب الاشتراكي اليمني القدامى. ناهيك عن (أطفال الانابيب) الجدد. وعليه، فقد (عريت) الجميع - القدامى والجدد - في موضوعكم هذا، وها نحن اليوم نقف امام التاريخ (عرايا) كما خلقنا الله، الجميع مذنبون.. وكما ان شعبنا الذي لم يعد يجمعه الا القليل، ويدرك من الذين لم يقراوا كتاب (تاريخ الوطن)، انهم هم أولئك الذين زنوا في احضان الوطن.. فلا تعايرني ولا أعايرك... كلنا عُرّة.. والذين اتهموا بالامس بعض الوطنيين من رجال الجنوب من انه لا توجد لهم بصمة في الثورة، هم اليوم انفسهم من يتهمون رجال بعض مناطق الجنوب بانهم خونة وعملاء وقوادين، وحولوا الجنوب الى سداح مداح..
ولعل ما حدث ويحدث في الجنوب العروبي منذ 1967، اكبر من الجنوب نفسه، كون الأطراف الإقليمية والدولية (المخابرات) - والكلام ليس من عندياتي - قد وظفت العقود الماضية في الجنوب وصراعاته وحروبه المحلية من اجل مشاريعها الخاصة - وحروبها المفتوحة - وكل ذلك ماكان ليحدث لو أن قيادات الحزب الاشتراكي اليمني، المتحاربة والمختلفة فيما بينها والمتماهية مع الأطراف الإقليمية والدولية سواء عندما كانت في الحكم اوخارجة، لم تتعامل مع الجنوب بأنه ساحة صراعات وحروب، وليس وطن واحدا لكل أبناء الجنوب، وهذا ما اثبته التاريخ منذ نصف قرن.
واليوم وبعد إدمان الصراعات والحروب والفشل، ومحاولة كل طرف أن يفعل اقصى ما يستطيع لشطب الآخرين من الخارطة السياسية والجغرافيا (بالقوة العسكرية)، ومن ثم يجعل من نفسه ممثلا وحيدا للجنوب، باسم وطنية كاذبه ووطن مفترض.. لكن ذلك تعذر مما دفع الأطراف في الداخل والخارج لتبادل الاعتراف، وفرض التوقيع بين الأطراف الجنوبية المتصارعة على اتفاقية الرياض، برعاية السعودية والامارات، وبدون ضمانات التنفيذ، والمراهنة على الزمن، وارتهان الجنوب بضمان الادوات في الداخل، انطلاقا من أن الجنوب مجرد قبائل، وكل طرف يحمل إعلامه، ويسوق شعاراته، ويسخن من كذبه ادعاءاته، ثم يجسد على الأرض تقسيم الجنوب.
إذن - الذي باع الجنوب بالأمس، يبيعه اليوم وبالتقسيط المريح، وعلى مراحل. ومن غير الممكن - إذا لم يكن من المستحيل- أن يرفع أحد الأطراف المتحاربة في أبين المصاحف على أسنة الرماح (فوهات البنادق)، لأنهم جميعا مزقوا المصاحف بالامس، واوقدوا فيها النار، وأغرقوا ما تبقى من تلك المصاحف بالدماء، بينما المصاحف بريئة من كل ما جرى ويجري من الضلال والكذب والدجل المزايدة والفضاعة، الأمر الذي جعل البعض يدعي بالأمس واليوم انهم قادرون على إعادة الجنوب للجنوبيين، في حين يدرك الجميع ان ذلك لن يتحقق طالما والقيادات التي هزمت الجنوب وانتصرت على شعب الجنوب بالامس لا زالت متصدره للمشهد، وتريد ان تعيد الجنوب بنفس العقليات والقيادات والتحالفات والممارسات والتكتيكات،( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
هكذا هي عزيزي أبو جمال، لعبة رقعة الشطرنج، القاعدون يلعبون، والمتفرجون يتفرجون، ولكن البيادق تموت، وكما تناثرت بِنَا بالامس القلاع المحصنة، سوف تتناثر اليوم ما تبقى منها، شئنا ام ابينا، ولن ينجو الملك.. وستبدوا البيادق على رقعة المربعات، التي كانت تحميها الفيلة والاحصنة، هشة، مثل ثوب رث قديم، ولسوف يدفعوا بالمقاتلين ليحفروا قبورهم بمعاولهم، وينسجوا اكفانهم بايديهم، وحينها سنبكي حتى لا نجد الدمع.. وستظل البيادق (الجنود) وراء خطوط النار، يحملون اسلحتهم وعتادهم، وقبل ذلك ارواحهم، ليس فداء لتراب الجنوب، وإنما (....).
وعنئذ لن يبكي أبو عبدالله الصغير مُلكاً مضاعاً! لانه لا مُلك له؟! وإنما سراب، سيحمل هنا وهناك، وسيغضب البحر الذي ركبوه ليخرجوا من الحياة والتاريخ، فذلك البحر كان يحرسهم، ويزورهم في الليل والصباح، ويطمئن على أحوالهم، إلى درجة أنه جعل نساء عدن يحبلن من امواجه، الذي يصطخب في بطونهن بعد غمسهن ارجلهن في ماء شواطئه، وبالذات ساحل ابين، ويكاد البحر ان يفقد ملوحته، من حلاوة اصابع ارجلهن المغمسات فيه، بدلاً من اصحاب الاجسام والاجساد البيضاء السابقة، الذي كنّا نشاهدهم في ايام العطل، وهم مستلقيين على رمال شواطئه، شبه عراه ما عليهم سوا ملابس السباحة، مستمتعين بشمس وبحر عدن، اولئك الذين سلموا عدن لنا جوهرة وحولناها الى مزبلة.
اما اليوم، ورغم ان العالم تغير، مازلنا في محلك سر، نفس القيادات ونفس الرطانة ونفس العقلية ونفس العلاقات، مع تغيير التحالفات مع مقتضيات الحاجة، حيث يعيش اليوم في عدن ابو نجمة، وابو لحية، وابو كيشه، جنبا الى جنب مع السماسره والبلاطجة والسرق، واصبحنا واصبح الملك لله على حد قولكم، اكثر من وطن واكثر من حكومة واكثر من قائد واكثر من مكون واكثر من جيش واكثر من مليشيا، ويا سلام سلم.
وامام ذلك، نحن لا نعيش بمعزل عن العالم، ولا توجد حقيقة اليوم في الجنوب سوى الشهداء والجرحى والاسرى الذين روت دمائهم تراب الجنوب دفاعا عن حريته وكرامته في مختلف المراحل، والجنوب كوطن مازال حياً يرزق كحقيقة ثابته في قلوب الشرفاء والمخلصين من ابنائه.. ونكرر ان لا جنوب دون توازن وطني سياسي وعسكري يراعى فيه معيار المساحة وعدد السكان والثروة والتاريخ بين محافظات الجنوب الست، بعيداً عن الماضي وعلاقاته وتحالفاته وعقليّاته، ليصبح الجنوب وللمرة الأولى وطناً للجميع..
* بقلم العقيد المهزوم: عوض علي حيدرة