حباها الله بجمالٍ رباني.. ذي جنة الدُنيا حواها كل فن

محمية حوف.. الأرض التي لم يُخلق مثلها في الجنوب

استطلاع/ أمير الشاطري

    تسير بنا السيارة واطاراتها تلتهم بساطٌ أخضرٌ وكأنها قد ولجت في نفقٍ من الإِخضرار، حكى لنا ابنها ودليلنا في رحلتنا إليها محمد القميري عن جمالها الرباني، وسكون ليلها، وتنوع غطائها النباتي، الذي تتوافر فيه مراعي خضراء على مد البصر..والكثير الكثير ليزداد شوقنا لرؤية محمية حوف بمحافظة المهرة.  

   حططنا الرحال وخرجنا مباشرة، __فلم نأتِ للنوم، بعد أن قطعنا إليها من عدن نحو الف كيلو متر_ لنرى جبالًا تكسوها الخُضرة بأشجار تتسابق إلى الأعلى لِتُقبِل السماء.. ترى تلك اللوحة _التي أحسن الخالقين في تصويرها_ وانت تتجول في أعالي حوف.

 

. عهد قيس وليلى

 

    وهناك حيث تتزاحم النباتات بجوار بعضها، وكأن لسان حالها يقول "زحمة يا دُنيا زحمة"، تجد بعضها وقد شق الصخرة نصفين ليخرج منها اللون الأخضر منفوش غجري يُسافِر في كل الدُنيا، وبجوارها ينتصب جذعًا طريًا يُخيل للناظر وكأنه حارسه الأمين.. وثالثٌ يْشبه القلب ليُشكِلَ لوحةُ حُبٍ من عهدِ روميو وجوليت.. فيملئ الزمكانية بعبق عشقهما الأبدي.      ما بين السماء وقِمم الجبال تسرحُ وتمرحُ الغيوم فيها، مداعبة العصافير _قليلة التواجد- لتعزف أحلى من سيمفونية (بيتهوفن) والقحوم، يستهويك ذلك المنظر الخلاب، فترغب أن تقعد على الغيوم لتنقلك مع _سند باد_ إلى عالمٍ لا يوجد إلا في الخيال.. ومسلسلات الأطفال.      ح وف.. هي هِـبة الخالق.. هي المحمية التي لم يُخلق مثلها في الجنوب، فرذاذ المطر يكاد لا يتوقف، وقد يتحول فجأة إلى مطرٍ تشتاق للاغتسال به من هموم الحياة وتعب السنون التي رسمت خارطتها على وجوهنا، ليرمي بها إلى البحر الذي يجاور منازل أهل حوف.

 

. الجعمي والقمندان

 

    تتميز حوف بخضرة الأرض وفيروزية البحر.. وانتشار المراعي.. وطيبة قلب أهلها (آل القميري)، كلشات، بن معيلي وغيرهم، وكأن ربي كساها الخصال الجميلة.. فيا ليت الشعراء شوقي، أمان، القمندان، المحضار،  ومحمد الجعمي، قد زاروها لقالوا فيها العجب العُجاب، أو قيس لتغزل فيها كما لم يتغزل بالعامرية ليلى.      حوف.. كلما تجولت في روابيها الخضراء المشبع عُشبها برذاذ المطر تشتهي المزيد كـ عبسي (الشره) الذي كل ما التهم قطعة لحم اشتهى المزيد، حتى تعب.. ولكن نحن لم نتعب لاعتدال طقسها المنعش، الذي تتراوح درجة حرارته في الأشهر (7،8،9) ما بين 20_15 درجة مئوية.. وغياب الشمس التي لم نرها لأربعة أيام متواصلة في مطلع شهر أغسطس، حوف "ذي جنة الدنيا حواها كل فن".

 

. طهي اللحم بالحجارة

 

    تتباعد مساكن أهلها عن بعضهم البعض لوجود مساحات شاسعة لم تُستغل بعد، ولكن ذلك الابتعاد لم يبعدهم عن الاحتفاء بأصدقاء الأصدقاء والخلان والجيران، فيهرعون للسلام عليهم والترحيب بهم، ويعرضون عليك العشاء على سفح أحد الجبال، ليأخذونك إلى عالم الرحالة ابن بطوطة، فبينما تتسامر مع من هو بجانبك باللغة العربية، في أمور السياسة التي يستمتع (الحوفي) بالحديث عنها، والعِلم الذي يفتخرون بانهم نالوا نصيبًا منه على الرغم من الإهمال الذي عانت منه المحافظة وابنائها مُددٌ طويلة، وعن القيادة وفنها التي انجبت المحافظة عددًا لا بأس من القياديين أمثال المحافظ السابق راجح باكريت، والمحافظ الحالي محمد علي ياسر.. وعميد كلية العلوم التطبيقية د. محمد المجيبي، سعيد علي القميري مدير عام الزراعة بالمهرة، والذاكرة تخونني في ذكرهم جميعًا فليعذروني لطول القائمة.. تجدهم يتعاونون على ذبح الماعز، وطهي لحمه فوق أحجار ملساء _تُلتقط من شاطئ البحر_، بعد أن أُشعِلت النار في الحطب والأحجار بينهما، التي ينتظرونها حتى تصير جمرًا، حينها توضع عليها برقة وحنان شرائح مختلفة الأحجام من اللحم معجونة بالبهارات، و"يا نفس ما تشتهي"، فلا يقطع عليك تلك الدقائق (السليمانية) إلا أذان المغرب ليُقدم لك ابن حوف قارورة بها ماء او يرشدك إلى صنبور هناك في الرُكن البعيد الهادئ للوضوء، وتعود تُصلي مع الجماعة فرضك، وتلحقه قصرًا بصلاة العِشاء، لتتناول بعدها وجبة العشاء.. التي يُقدمها لك (الحوفي) بكرمٍ حاتميٍ طائي، مع ابتسامة رائعة، وكلمة ترحيبية طيبة كطيبتهم.. في أرضهم الطيبة..في ليلهم الهادئ.     لا تخلو السمرة (الحوفية) من حديث المؤيد لسياسة الحامل للقضية الجنوبية في المناطق المحررة (المجلس الانتقالي الجنوبي)، وأخر له وجهة نظر فيه.. وبين هذا وذاك يرقب المحايد متأملًا النقاش الأخوي لعله يجد فرصة ليدلي بدلوه في غيابات جُب السياسة العميق.. من غير أن يضر زيد أو يوسف.

 

. وللشاهي حكاية

 

    يا جارية دوري بالشاهي واسقي عشاقه لذته .. من عادات ابناء المهرة الَا يغيب الشاهي الأحمر عن جلساتهم ليزيدها متعةً ومزاجيةً وجمالا .. فهو ينافس الماء في توافره وتقديمه.. بل ربما تشرب شاهي اكثر من الماء في يومك الواحد، حتى صار سيد الجلسات بمذاقه الذي لا يُضاهى .. فرشفة منه تُطلق الحرارة في جسدك وتبعث النشاط فيه لتشعرك بأنه حان وقت القيام بجولة أخرى .. فأنت لم تأتِ إلى حوف لتقعد في غرفتك، بل جئت لتستمع بجمالها الأخاذ.. وسحرها الذي لا يُقاوم.. فلربما لن تتكرر الرحلة.. ولربما لن تعود إليها، فاغتنم ثلاثًا قبل ثلاث رُفقاء رحلةٍ رائعون، قد لا يتكررون.. وطقسٌ ولا في الأحلام.. سيسوء بعد شهر سبتمبر، وطبيعةٌ خضراء ستتحول مع قدوم الشتاء إلى أشجار يابسة في أرض قاحلة.. فسبحان مغير الأحوال من غير اصدار قرار.  

  فيستجيب رفيق رحلتنا الرائع أبو علي السنح لمطلبنا ويأخذنا بعيدًا إلى أبعد منطقة جنوبية.. إلى صرفيت.. وتحديدًا إلى المنفذ الحدودي.. إلى أخر نقطة بين جنوب اليمن وصلالة العُمانية _ذات الطقس الواحد والطبيعة الواحدة_، ولا تفصلهما عن بعضهما سوى مرمى حجر.. وهي ما تعني واحدية الشعب العربي المسلم، لتكون شاهدة بأن الاستعمار قد فصل الجسد العربي عن بعضه.  

 

. "وا زيب قر"

 

     يعشق (المهري) البحر، ويجيد التعامل معه، وكأنه قد قرأ بتمعُنٍ كتاب الملاح العربي أحمد بن ماجد في فنون وقواعد ركوب البحر.. ففي إحدى رحلات الاصطياد التي انطلقت بعد صلاة الفجر _"و يا رُبان قود السفينة"_، تواجدنا لحظتها ورأيناهم كيف يتعاونون في دفع قواربهم الراسية على الشاطئ إلى البحر الذي صادف ذلك اليوم هيجانه..وعتي أمواجه.. وهنا حضرتني أغنية أحمد فتحي التي يقول مطلعها (وا زيب قر).      ففي مطلع آب/ أغسطس من كل عام يكثُر اصطياد أسماك الحبار التي تدر على الصيادين الكثير من المال، فهذا موسمه ويبيعون فيه الكيلو ما بين 5-4  ألاف ر.ي (ما يُعادل تقريبًا خمسة دولارات).. ولكن في ليلة ذلك اليوم يبدو أنهم لم يطالعوا كتاب أحمد بن ماجد قبل خروجهم للبحر؛ إذ لم يكُن سعيدًا لهم فقد عادوا بالنذر اليسير من الحبار لم يتجاوز عدد أصابع اليدين، وهنا عرفنا السبب لبرودة الطقس في وسط البحر وهيجانه، فبطُل العجب.. وكادوا أن يفقدوا شواطئهم، بعد أن أخذتهم الأمواج بعيدًا لولا رفيق رحلتهم جهاز العم (ماجلان)، الذي أرشدهم إليها.    

 

. المهرية غالية

 

      "عطاء وا رب وا كريم.. عطاء مهر أمبنات كثير" لعل كلمات هذه الأغنية التهامية قيلت في الفتاة المهرية الذي يُعد مهرها من المهور المرتفعة في اليمن، بل والمُبالغ فيها، وذلك لرغبة بعض الشباب العُماني أو المغترب المهري في دول الخليج الزواج منهن، فيُطلب منه مهرًا مرتفعًا، يقدر عليه، ولكنه بالمقابل (يقصم ظهر) الشاب الذي يعمل في الوطن.. أنعكس ذلك الوضع على حياة الناس المعيشية اليومية، فالأسعار فيها نار يا حبيبي نار.. تزيد ربما بـ 50% عما هو موجود في بقية المحافظات اليمنية المحررة.      فالمرأة المهرية (شاطرة)، تجيد الأعمال المنزلية، وتمتلك من الثقة في نفسها ما تمتلك، فإن قعدت على عتبة باب بيتهم تتجاذب أطراف الحديث مع صديقاتها، ومر أحد أفراد قبيلتهم لا تركض و(تتعثر) بفرارها إلى داخل البيت، بل تسأله بكل وقار وأدب عن أحواله وأحوال الأهل والخلان، وإن رأيتها ترعى الأغنام وهي تحمل عصاها فلا تُفكر أن تلتقط صورة لها، فذلك يزعجها، وقد تجدها ترعى أغنامها وهي تقود سيارتها. 

 

. توافر كل شيء

 

    تتوافر في المديرية بعض الخدمات البسيطة، وإن بدت متواضعة كسيارات الأُجرة الخاصة، فنادق عادية، مطاعم بسيطة، فيد السلطة المحلية لم تصل إليها الا باستحياء، ورأس المال جبان؛ يخشى المغامرة في استثمار طبيعة تدر عليه العائد المادي لثلاثة أشهر فقط خلال العام.

 

. ولنا لغتنا

 

   يعتز أبناء المهرة بلغتهم المهرية، _التي أُنشئ لها مركزًا في عاصمتهم حسب الباحث محمد القميري، لمعرفة الكثير عنها واكتشاف خباياها_، فعندما يتجاذبون أطراف الحديث مع بعضهم البعض يتحدثون بمهريتهم، أما مع ضيوفهم فيتحدثون باللغة العربية التي يجيدونها كإجادتهم لغتهم الأم، وقد تعلمنا منهم عندما تلتقي بشخص أخر تبادره بعد السلام بكلمة "خبور"، وتعني ما هي أخبارك؟، فيرد عليك "خبور خير".. فنسأل الله أن تكون أيامكم خبورها خير. في موسيقانا "63" ايقاعًا، و حوف الإيقاع رقم ""64.. فهي نغمٌ خالد.. يتجدد كل يوم، وكل ساعة.. ولا  لحن  (مون آمور) أو "سيرة الحُب" الذي لا تمل من سماعهما.. وإن كررتهما مرات ومرات.. هذا هو الحال مع حوف فلا تمل من لحظاتك التي تقضيها في سفوح جبالها.. التي بلا شك أنها تجعلك تسترخي، تستمتع وتستريح، وتقول في نفسك أجمل اللحظات لم نعشها بعد، وأجمل الأشعار لم تُقل فيها بعد، وأجمل الفتيات لم يُخلقن بعد، وأجمل الكلمات عن حوف لم تُكتب بعد، وإن كنت أقدر أسافر تاني حزور حوف.   فيا عشاق السفر احزموا حقائبكم إلى حوف ففيها اجمل وأحلى منظر.