عن مبادرة الرئيس علي ناصر محمد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ عيدروس نصر

سررتُ كثيراً عند متابعة المقابلة التلفيزيونية التي أجرتها قناة BBC البريطانية مع الأخ الرئيس علي ناصر محمد رئيس هيئة رئاسة مجلس الشعب الأعلى في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ضمن البرنامج الحواري "بلا قيود"، ومبعث سروري هو أن العزيز أبا جمال ما يزال والحمد لله يتمتع بحيوية جسدية وذهنية حاضرتين، وتجسد ذلك من خلال حضوره الذهني الواضح في ردوده وتعليقاته على مجموعة الأسئلة التي وجهها له المذيع المخضرم نور الدين زورقي.

وفي هذا السياق أتمنى للأخ العزيز أبي جمال المزيد من الصحة والسعادة والعمر المديد فهو من القادة الذين قادوا بناء جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في تحقيق كل المنجزات التي تعرض لها في مطلع حديثه والتي كانت حصيلة نهج سياسي شامل لقيادة البلاد في تلك المرحلة الهامة، تلك القيادة التي كان الأخ الرئيس علي ناصر أحد أفرادها.

هناك الكثير من النقاط التي تناولها فخامة الرئيس في حديثه كان محقاً في معظمها ولا تحتاج إلى التعليق أو حتى التحليل والتفكيك والتركيب، لكن النقطة الأساسية التي ما انفك الرئيس العزيز علي ناصر يتمسك بها وبقوة هي ما تستحق التوقف والمناقشة، وأعني هنا إصراره على إن لا حل لمشاكل اليمن وأزماتها المتناسلة إلا من خلال "دولة واحدة برئيس واحد وحكومة واحدة وجيش واحد" وهي قضية تكررت على لسانه في أكثر من حديث ولقاء ومقابلة وتصريح وخطاب وجلسة فرح أو عزاء.

الحقيقة إن الفكرة ذاتها هي فكرة نبيلة وأعتقد أن الرئيس ناصر يتمسك بها بدوافع نبيلة وصادقة، لكن المشكلة أن ممكنات نجاح الفكرة ليست فقط غائبة ويمكن العمل على استحضارها أو تنشيطها وتوطينها ولو عبر سنوات أو حتى عقود من الزمن، بل إن عوامل تحقيق أهداف هذه الفكرة قد انتقلت من خانة الصعب إلى درجة المستحيل.

إن الدوافع النبيلة للفكرة هي نفسها التي انطلق منها الرواد الأوائل ومن بينهم فخامة الرئيس علي ناصر نفسه، منذ نشأة حركة القوميين والعرب ومعها الفصائل القومية واليسارية (الماركسية) في عدن وصنعاء وتعز، وكل ما كان يعرف بـ"شطري اليمن"، وللاعتراف بالحقيقة لا بد من الإقرار أن فكرة "الوحدة اليمنية" لم تكن فقط فكرة يسارية صرفة، بل لقد كانت شعاراً لجميع القوى والتيارات السياسية الحاضرة في المشهد السياسي منذ عهد المملكة المتوكلية الهاشمية، قبل أن تتحول إلى المملكة المتوكلية اليمنية، وهذا الموضوع يطول الحديث فيه، لكن الشاهد هنا هو أن كل تيار سياسي كان لديه مفهومه وتفسيره ومقاصده وأهدافه من وراء فكرة "الوحدة اليمنية" وهذه المقومات والأهداف والشروط قد تختلف وتتناقض وتتصادم مع مشاريع أطراف أخرى، وهذا بالضيط ما حصل مع محاولة "وحدة 1990م الفاشلة"، وهو الآخر ما يمكن التوقف عنده بتفاصيل أكثر، ويهمني هنا أن أشير وبكل تواضع إن كاتب هذه السطور، كان قد توقف عند هذه القضية بمزيد من التفصيل في كتاب "القضية الجنوبية وإشكالية الهوية"١ .

إن حلم "الوحدة اليمنية" قد ظل عبارة عن حالة من الرومانسية الجميلة التي تعلق بها كل الثوريين اليمنيين في الشمال والجنوب، ولا يمكن إنكار أن تكريس شعار "النضال من أجل تحقيق الوحدة اليمنية" في الجنوب قد مثل حالة من التعلق العاطفي الشديد كرَّس حضوره في ثقافة الأجيال الجنوبية التي نشأت وتكونت بعد الاستقلال الوطني، في الثلاثين من نوفمبر 1967م، وترعرعت الفكرة مع الأجيال الجديدة من السياسيين إلى درجة صار معها من لا يؤمن بهذا الشعار موضع اتهام بالخيانة واللاوطنية وربما العمالة للخارج.

ولكي لا نغوص طويلاً في محاولة البرهان على استحالة "الدولة اليمنية الواحدة برئيس واحد وحكومة واحدة وجيش واحد" يمكن التوقف فقط عند ما جرى في العام 2015م حينما انقلب الجيش الواحد وكل مقومات الدولة الواحدة على الرئيس الشرعي الواحد حينها، الفريق عبدربه منصور هادي أطال الله بعمره، وتخلى عنه حتى مرافقوه وناخبوه وكل من تحالف معه في تنصيبه رئيساً شرعيًا، أما "الرئيس الواحد" السابق فقد حسم أمره وسلم زمام كل السلطات التي بقي محتفظاً بها من خلال أولاده وأقاربه للجماعة الانقلابية.

ولمزيد من البرهان يمكننا القول بأن أحداث الحرب التي ما تزال إمكانية مواصلتها قائمة، قد أثبتت أن في اليمن شعبين مختلفين بنهجين مختلفين وثقافتين مختلفتين، فقد تمكن الجنوبيون وبمساعدة دولتي التحالف العربي من دحر الفيالق الانقلابية خلال أقل من مائة يوم ، برغم محدودية القدرات والخبرات والمهارات القتالية، بينما عجز ستة وعشرون مليوناً من أبناء الشمال عن تحرير مديرية واحدة من المحافظات الخمس عشرة، باستثناء المديريات والمحافظات التي قاوم أهلها المشروع الانقلابي بوسائلهم الخاصة وبعد ما سلموا أراضيها للجيش (الوطني) قام هذا الجيش بتسليمها للحوثيين رغم أن الدعم العربي الذي حصل عليه الأشقاء الشماليون، وخلال عشر سنوات من الحرب قد بلغ مئات أضعاف الدعم الذي حصل عليه الجنوبيون.

واختصاراً لكل هذا يمكن القول بكل يقين إن اليمن تعيش اليوم وضع الدولتين، دولة شمالية عاصمتها صنعاء يتحكم فيها الحوثيون (الشماليون)، ودولة جنوبية عاصمتها عدن، يتحكم فيها المؤتمريون والإصلاحيون (الشماليون) وتفريخاتهم الشمالية مع نسبة ضئيلة من الجنوبيين الذي ما نزال نحتاج إلى تفسير مقنع لمبررات قبولهم بهذه الشراكة العرجاء.

أعتقد أن فخامة الرئيس أبا جمال يعلم علم اليقين أن الجماعة الحوثية ترفض حتى الاعتراف بشركاء شماليين، أما الجنوبيون فهي تنظر إليهم على أنهم خونة وانفصاليين وينبغي نفيهم من البلاد، وحتى لو شاركها جنوبيون (من المصنَّعين معملياً) فلن يكون مصيرهم أكثر من مصير أحمد القنع، وحسين زيد بن يحيى وخالد باراس وغيرهم ممن توفاهم الله في ظروف غامضة ما تزال بحاجة إلى بحث وتقصٍ محايدين أو مصير بن حبتور وقاسم لبوزة وياغزغوز وهشام شرف وغيرهم من المغيبين في عوالم المجهول.

ويبقى الحديث عن مؤتمر حوار وطني يمني، الذي يتحدث عنه فخامة الرئيس، وهو حديث لا يحتاج إلى نقاشٍ موسع، فما انقسم المتحاورون السمنيون وما قام الانقلاب وما اندلعت الحرب إلا بسبب آخر حوار حاول من خلاله الرئيس هادي وبكل نبل وصدق وإخلاص أن يخرج فيه اليمن من ربقة التخلف والاحتراب فكانت مكافأته ما تلى هذا المؤتمر من تداعيات يعرفها الجميع، وأي محاولة لتكرار التجربة لن تكون نتائجها أقل سوءاً مما جرى في الأعوام العشرة المنصرمة.

إن المشهد السياسي والعسكري اليمني يؤكد لنا أن الشعب الشمالي راضٍ بالوضع القائم من خلال السلطات الحوثية، وأي تفكير بتغيير الوضع عما هو عليه سيكون مجرد حراثة في البحر، قد يمثل عدوانا على خيارات الشعب الشمالي، بنظر المتحكمين بالجمهورية العربية اليمنية، وأن استمرار حكم الجنوب من خلال قيادات شمالية نازحة، لم يستطع كل منها إقناع مائة مقاتل من أبناء مديريته لتحرير مديريته من الحوثيين، هو أمرٌ عبثي لا معنى له، بل هو تكريس لنتائج الحرب العدوانية على الجنوب في العامين 1994م و 2015م. 

وإن السلام والاستقرار وحتى التنمية والنهوض في اليمن مرهون بالعودة إلى وضع الدولتين، وأعتقد أن كل العقلاء والسياسيين الواقعيين في اليمن يدركون، أو لا بد أن يدركوا أنه بإمكان الدولتين اليمنيتين القادمتين أن تعيشا حالة من العلاقات الثنائية القائمة على المشتركات المتعددة من خلال الاعتراف المتبادل وبناء شراكات اقتصادية واجتماعية وخدمية وأمنية وحتى عسكرية فيما بينهما دونما حاجة إلى استحضار ثنائيات التابع والمتبوع، أو الرابح والخاسر، أو المنتصر والمهزوم، أو الأقوى والأضعف، أو السالب والمسلوب، وأن نظرية "الفرع والأصل" هي نظرية مدمرة قد أدت إلى ما أدت إليه من كوارث متتالية لم يحصد منه اليمنيون إلا الخراب والدمار والدماء والضغائن التي وصلت إلى كل بيت في الشمال والجنوب، وإن كان ضحاياها من الجنوبيين هم أضعاف مضاعفة عما سعى إليه مروجو هذه النظرية الخائبة.

وأخيراً كل التحية والتقدير للأخ العزيز الرئيس علي ناصر محمد، وأدعو الله له بطول العمر ودوام الصحة والسعادة والتوفيق

والله من وراء القصد.

___________

١. د. عيدروس نصر ناصر، "القضية الجنوبية وإشكالية الهوية"، دار يسطرون للطباعة والنشر ، القاهرة،