بودابست… انطباعات زائر

د. عبدالقادر المحوري

 

كانت عجلات القطار تئنّ على القضبان وهي تقترب من محطة (الكلتي بايا اودفور )في بودابست. بعد غياب متقطع ، عدت إلى المدينة التي تركت فيها جزءاً من روحي. جسر السلاسل الذي يربط بودا -وبست كان يقف شامخاً كحارس زمني، يشهد على التحولات التي مررت بها منذ أن كنت طالباً في مرحلة ما.

 

النافذة التي أطل منها اليوم هي نفسها، لكن نظراتي صارت أكثر عمقاً، وأكثر حزناً أيضاً.

بودابست اليوم أكثر جمالاً مما كانت عليه. المباني التاريخية تم ترميمها، والطرقات أصبحت أكثر نظافة. لكن شيئاً ما فقدته المدينة. لم أعد أرى بائعي الزهور العجائز عند مدخل جسر مارغريت، ولا سيارات الترابانت القديمة التي كانت تجوب الشوارع.

 

الضوء الذي لا يلمس

في آخر يوم لي، وقفت عند ضفة الدانوب أتأمل مبنى البرلمان المضاء. ذلك الضوء الذهبي الذي يلامس الماء... هو نفسه الضوء الذي كنّا نراه ونحن طلاب. هو نفسه، لكننا لم نعد نحن أنفسنا.

 

الضوء موجود... في صوت الترام ( الفلاموش )الأصفر. لكنه ضوء لا أستطيع الإمساك به. كحلم جميل تراه لكنك لا تستطيع العيش فيه.

 

عندما غادرت بودابست، نظرت من نافذة الطائرة . ربما هذه هي حكمة العمر: أن نتعلم كيف نحمل الجمال في قلوبنا دون أن نمتلكه، أن نحب الأماكن دون أن نمكث فيها، أن نحتفظ بالضوء في صدورنا حتى وإن لم نستطع لمسه.

 

ستبقى بودابست في قلبي... مدينة الضوءين التي علمتني أن بعض الأماكن لا تغادرنا، حتى عندما نغادرها. وأن بعض الذكريات تبقى كالضوء... ترافقنا في كل محطة تالية.

 ها أنا أعبر جسر السلاسل الذي يصل بين بودا وبِست، كأنه جسر يربط ماضيَّ بحاضري.

النافذة التي أطلّ منها اليوم هي نفسها، لكن العيون التي تنظر من خلالها لم تعد هي ذاتها.

 

تلمع مدينةُ الضوءين أمامي، بودابست، كحلمٍ قديمٍ يعود ليريني نفسه من جديد. أتذكّر أيّام الدراسة هنا، حين كنّا شبابًا لا نحمل من هموم الدنيا شيئًا.

أتذكّر معهد اللغات بودا أورشي وكلية كاريكاش فريجاش العتيقة، ثم مقاهي الكورتير التي كنّا نهرب إليها لنحلم أحلامًا بسيطة… ومعقولة.

ما أروع الحلم حين يلامس الواقع، وما أجمل التواضع حين يجاور الطموح!

 

أتذكّر شتاءً كنّا نرسم فيه على زجاج النوافذ المتعرّق، وأصدقاء جمعتني بهم الأقدار، بعضهم باقٍ في الذاكرة، وبعضهم غيّبته المسافات.

لكن ما أصعب العودة وحيدًا! كأنّ أنين الماضي يثقل كاهلك وحدك، تحمله عنك وعن الرفاق الذين لم تسمح لهم الأقدار بالعودة.

كلّ ما تستطيع فعله هو أن تستعيد شريط الذكريات، كأنّك في رحلةٍ لإعادة التاريخ أو لتوقيف عجلة الزمن.

 

ها أنا أعود مثقلاً بأعباء الحياة، أبحث عن ذلك الضوء الذي تركناه هنا.

كانت الحياة آنذاك بسيطة، كنّا نسير ساعاتٍ على ضفاف الدانوب ونغنّي أغانٍ مجرية لا نزال نحفظ كلماتها لتعبّر عن تلك الحقبة.

لم تكن لدينا هواتف ذكيه تلتقط الصور، لكنّ أعيننا كانت تفعل ذلك، وتحتفظ بالمشاهد في أعمق زوايا القلب.

 

الحياة لم تتغيّر كثيرًا… المباني هي ذاتها، لكن الأرواح تبدّلت.

بودابست اليوم أكثر إشراقًا وتطورًا، لكنها فقدت شيئًا من سحرها القديم. كأنّ المدينة تقدّمت مع الزمن، بينما تركت بعضًا من روحها هناك، في الماضي.

 

وفي أزقّتها وشوارعها، أبحث عن ضوء شبابي المفقود، عن دفء تلك الأماكن التي لا تغادر الذاكرة.

الضوء ما يزال موجودًا، أشعر بدفئه كلّما سمعت رنين ترام الخط الأصفر الفلاموش، لكنّي لا أستطيع لمسه.

كشعاع شمسٍ يلامس وجهك، لكنه يظلّ بعيدًا عن قبضتك.

 

وداعًا يا بودابست.

سأغادر كما أتيت، حاملاً في قلبي ضوءًا لا ألمسه، وذكرياتٍ أصبحت كطوابع على جواز سفرٍ قديم.

ربّما هذه هي حكمة العمر: أن نتعلّم كيف نحمل النور في قلوبنا دون أن نحاول امتلاكه.

 

ستبقين مدينةَ الضوءين…

وسأبقى أنا المسافر الذي يحمل من ضوئك شعاعًا لا ينطفئ، وحنينًا لا يزول، وذكرى لا تموت.

 

وختامًا

يبقى عليَّ وعدٌ وعهدٌ قطعته لبعض زملائي: إن طالت بنا الأقدار، وشاء المولى عز وجل، أن تكون هناك زيارةٌ ورحلةٌ خاصة إلى سِبدسالاش، تلك البلدة التي لنا معها حكايةٌ وأثر، وتحتاج إلى حلقاتٍ في تذكارٍ وأرشفة ماضٍ لا يُنسى.