هل نتعلم الدرس؟

       اجتاحت تقنية إدارة الأزمات عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الإجتماعي حقل العلاقات الدولية بقوة، بعدما ظل ينحصر استخدامها في مجالات الاقتصاد والإدارة لمدة طويلة، ولا غرابة في ذلك ما دامت هذه الوسائل التي تتركز في مجمل الاجتهادات والمواقف وردود الأفعال المستندة بدورها إلى مقومات علمية وقانونية بغرض احتواء أزمة معينة، وهي أنجع وسيلة لاحتواء وتطويق المنازعات والأزمات وأقلها تكلفة.

    والمنطقة العربية التي تتميز بإمكانياتها النفطية ومواقعها الإستراتيجية وبتعدد أزماتها ونزاعاتها المتباينة (داخلية، دولية وإقليمية، ذات طابع سياسي، اقتصادي وعسكري...) وأمام تواضع جامعة الدول العربية في احتواء هذه الأزمات وهزالة حصيلتها في هذا المجال، شكلت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي عبر الانترنيت فضاء خصبا لتشريح الواقع السياسي، وتحديد مسار تلك الأزمات، بغظّ النظر عن طبيعة ووجهة هذا المسار.

ولعلّ التجربة التونسية والليبية التي لم يمضي عليهما مدة طويلة تشهدان حدّة الصراع في محاولة التأثير على الرأي العام، وبناء مواقف شعبية قد يكون لها التأثير الناجع على مصير الأزمات.

    فقد تضاعف عدد مستخدمي مواقع التواصل الإجتماعي مع بداية الثورات في العالم العربي، بحيث يمكن تأريخها من خلال أرشفت الأحداث التي لعبت مواقع التواصل الإجتماعي الدور الأبرز في نقلها الى شريحة أكبر من المجتمعات العربية والعالمية. كما ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي خلال هذه الفترة في نشر اللهجات العربية عبر الدول العربية والمعرفة الجغرافية بأصغر المدن والمناطق في الوطن العربي". كما أن صورة الشباب تغيّرت بشكل جذري  من شباب كان يوصف بالسطحية في السابق، ولكن من خلال المشاركة في بناء المواقف العامة،أصبح شباب فاعلا يؤثر في المشهد السياسي، وفي توجيه الأزمات بشكل خاص.

    وهناك من يرى بأن دور الحكومات يتراجع في مسألة تسيير الأزمات، وهذا في ظلّ تنامي ما يعرف بإعلام المواطن، الذي ينتعش عبر شبكات التواصل الإجتماعي. فهذه الأخيرة اختزلت الجهد والوقت في بناء مواقف جماهيرية على قدر كبير من الأهمية والتأثير. فشمال افريقيا شهد أزمتين سياسيتين أفضتا إلى إنهاء أنظمة سياسية عجزت فيه هذه الأخيرة عن التحكم في الأزمة، وإخراجها من سيطرة مواقع التواصل الإجتماعي.

    يبدو واضحا العجز الحكومي لمنطقة شمال افريقيا والعربية عموما، في مسألة تسيير الأزمات بشكل عام، والازمات السياسية بشكل خاص. فتسيير الأزمة كما هو معروف هي مجموع الميكانيزمات التي تعتمد على قاعدة معلوماتية، تسعى لمعالجة واقع معلوماتي أخر. وهي بذلك تعتمد على المعلومة بشكل دقيق، سواء كانت هذه المعلومات ذات طابع أولي، أو ذات طابع رجعي. فالأولى تمثل مجموع المعلومات التي تستقيها الجهة المكلفة بتسيير الازمة عن الواقع المتأزّم، فيما تمثل المرحلة الثانية مجموع الإجراءات المتخذة بناءا على قاعدة المعلومات المستوحاة في المرحلة الأولى، وإعادة إرسالها إلى البيئة المراد معالجتها، فالمعلومة إذا هي محور تسيير الأزمة.

   ولما كان العصر الذي نعيشه عصر إعلام ومعلوماتية، فقد اكتسب الإعلام أهمية بالغة في تسيير الأزمة، وأصبحت الحكومات ترتكز عليه في معالجتها للأزمات. إلا أن الوضع بقي محتشما إذا تعلق الامر بالأزمات السياسية المتعلقة بالحكم، حيث تتخلى الحكومات عن الركائز الأساسية التي تبنى عليها تسيير الأزمات، بحجة هدف أكبر وهو القضاء المبكر والنهائي على الازمة. هذا الإستعجال، الذي لا يراع فنيات تسيير الأزمات، والنابع عن الخوف من فقدان سلطة الحكم، هو ما يجهض نجاح هذه الأخيرة، ويفتح المجال أمام المعلوماتية، وعلى رأسها شبكات التواصل الإجتماعي للنيل من هذه الأزمات، وترجيح كفتها إلى الجانب الذي تعمل من أجله.

ولو ألقينا نظرة ولو خاطفة على حالتي الأزمة في كل من تونس وليبيا، لتجلى لنا ذلك بشكل واضح. فكلا البلدين تجاوزا أزمات عديدة، بفضل برامج تسييرية ناجعة.

   وقد نضرب مثالا للأزمات ـ على كثرتها ـ أزمة حادثة قفصة، بين تونس وليبيا. وتمثلت هذه الأزمة في عملية مسلحة جرت في الليلة الفاصلة ما بين26 إلى 27 أفريل 1980 تولت القيام بها مجموعة من الأشخاص قدر عددهم بحوالي 60 مسلح هاجموا مراكز الشرطة والحرس وثكنتين بالمدينة قبل أن يوجهوا دعواتهم إلى الأهالي للانضمام إلى “الثورة المسلحة “والإطاحة “بالنظام. وقد وجّه الإتهام إلى الحكومة الليبية، فيما نفت السلطات الليبية أي علاقة لها بعملية قفصة عند انطلاقتها حسب تصريح وزير خارجيتها الذي جاء فيه “الجماهيرية الليبية غير متورطة بصفة مباشرة أو غير مباشرة بالأحداث الجارية بمدينة قفصة. ووصل الأمر إلى إتهام الجزائر أيضا بضلوعها في العملية، ورغم أن السلطات الجزائرية أصدرت بيانا أكدت فيه أن حرس مراقبة الحدود لم يسجل أي تسرب لأشخاص أو لحركة مشبوهة. إلا أن “الهادي نويرة” الوزير الأول التونسي شكك في هذا الموقف معتبرا أن الحكومة الجزائرية ضالعة في أحداث قفصة.

وبلغت الأزمة ذروتها بين الدول الثلاثة. لولا تعقّل الأطراف وتفاعلهم مع فنيات تسيير الأزمات، لتتجاوز المعظلة بعد سلسلة من اللقاءات والمشاورات، وإعادة ترتيب أوراقها وفق هدف استراتيجي.

    إلا أن المواقف تتغير والأولويات تتبدّل عندما تتعلق الأزمة مباشرة بمناصب الحكم في الدولة. ففي تونس شأنها شأن الأزمة الليبية، بدأت الأحداث في شكل بسيط، قابل للسيطرة، وفق أبسط فنيات تسيير الأزمات. غير أن الحكومتين تملصتا من أية إرادة حقيقية لمعالجة الأزمة، وانتقلت مباشرة إلى موقف عنيف، لمواجهة ما وصفتهم بالمتسببين في الأزمة، رغم أن ما توجهه هم جموع الشعب، في مختلف مناطق البلدين. لتتفاقم الأزمة شيئا فشيئا، رغم أنها كانت تنمو بشكل طردي مع التصعيد الحكومي في واجهة الأزمة.

    وما عجّل من سقوط الحكومات والأنظمة بهذين البلدين في إطار الازمة التي حصلت، وخروج هذه الأخيرة من سيطرة الأنظمة، حصولها تزامنا مع انتشار العولمة، وعلى رأسها شبكات التواصل الإجتماعي، التي اغتنمت فرصة الأزمة وعجز وفشل الأنظمة في التعامل معها لصالح الرغبة العامة للمشتركين في هذه الشبكات. فقد كشفت دراسة قامت بها مؤخرا جامعة واشنطن من خلال باحثين متخصصين لمعرفة الدور الفاعل الذي قامت به وسائل الاعلام الاجتماعية مثل تويتر والفيسبوك في اشعال وتفعيل الثورات العربية المختلفة والتي اجتاحت بعض دول الشرق الاوسط وشمال افريقيا واعتمدت الدراسة على 3 ملايين تعليق  وساعات لا تحصى من أشرطة فيديو من المواقع الشخصية، لمعرفة واستكشاف ما اذا كانت الشبكة العنكبوتية والخدمات الاجتماعية كتويتر والفيسبوك ووسائل الاعلام لعبت حقا دورا كبيرا في الأزمات العربية. وخلصت الدراسة إلى أن الشعوب اسفادت كثيراً من المشاركة في الشبكات الاجتماعية سعيا للديمقراطية واصبحت مختلف وسائل الإعلام من صحافة ومواقع جزءا هاما من الادوات الساعية للحرية. حيث وجدت ان التعليقات في تويتر قد ارتفعت من 2300 تعليق في اليوم الواحد لتصل الى اكثر من 230000 في اليوم الواحد وهذا يعكس نوعا من الانفجار والعطش للحرية واليمقراطية والتغيير.

  يحدث هذا مقابل مواقف للأنظمة اتجاه تلك الازمات تبدو في غاية السذاجة، رغم أن نفس الأنظمة تعاملت مع أزمات سابقة وأكثر تعقيدا بطريقة سويّة، تمكنت من خلالها من تجوز الازمة. وما يثير التعجب أكثر أن جلّ الأزمات السياسية الشبيهة، والتي تلت الأزمة التونسية، لم تدرك الانظمة فيها الأخطاء السابقة، وواصلت في تجاهل مبادئ تسيير الأزمات، ما يؤكد نقص الوعي السياسي، إذا تعلق الأمر بأزمة تمسّ مراكز الحكم.

   ليس غريبا أن تسيطر الشبكات الإجتماعية عبر الأنترنيت على العديد من الأزمات، من خلال توجيه الرأي العام، وتحديد مصير الازمة. وهذا نتيجة للعديد من الخصائص التي تتمتع بها الشبكات الإجتماعية، لم تتمكن الأنظمة السياسية من ضمانها، نذكر من بينها :

_ القدرة التقنية والفنية للشبكات الإجتماعية في التأثير الشخصي والجماعي حول القضايا ذات الصلة باتخاذ القرارات.. من خلال هذا كسبت هذه الشبكات ثقة الرأي العام، في الوقت الذي فقد فيه هذا الأخير ثقته في الأنظمة التي تعاملت مع الأزمة بأسلوب العنف. فهذه الشبكات، تستعين بكمّ هائل من المعلومات ذات الطابع الإقناعي، من صور وفيديو، ومرونة ورجع صدى. إضافة إلى توظيف مواقف قادة الرأي في المجتمع، وفتح مجالات حرية الرأي والتعبير في الوقت الذي أغلقت فيه الأنظمة تلك القنوات. فبدت الشبكات كالقائد المنتظر.

_ مراعاة الشبكات الإجتماعية لمفهوم النسق الإجتماعي : النسق الإجتماعي هو مفهوم شاع مؤخرا في السوسيولوجيا الحديثة، وهو يشير إلى مجموعة من الأفراد يتباينون ويتفاضلون وظيفيا، إلا أنهم معنيون بحلّ مشاكل أو تحقيق أهداف موحدة. فقد اعتمدت شبكات التواصل الإجتماعي على شبكية الأنترنيت للوصول إلى هذا النسق، وضمّ أكبر قدر من الأشخاص المعنيين. وهو دور يكلف الأنظمة أموالا ووقتا كبيرين دون قدرتها على بلوغ مثل هذه النتائج، كما هو حاصل مثلا في حملات الإنتخاب، أو الإحصاءات الروتينية. وبهذا تمكنت شبكات التواصل الإجتماعي من خلق قوة شعبية، على قدر كبير من التوافق، وعلى قدر كبير من الثقة بهذه الشبكات.

 

                                                                   أستاذ الإعلام والاتصال                                                                                                                                                   الجزائر