يحتفل غوغل بعيد ميلاده العشرين، وقد صار رفيقا وجليسا لنا جميعا، مهما كان حظّنا من المعرفة، ومهما كان موقعنا الاجتماعيّ والثقافيّ. وإذا تركنا جانبا ما يحفّ بتاريخ غوغل القصير نسبيّا والثريّ بالأحداث والتحوّلات والصراعات والنزاعات من أجل احتكار كل شيء بابتلاع الشركات الصغيرة المتخصّصة للهيمنة على العالم الرقميّ، فالثابت أنّنا نسأل أحيانا كثيرة: ماذا كنّا سنفعل لو لم يكن غوغل معنا؟ نترك ذلك الآن حتّى لا ننغّص على الشيخ الفتى غوغل فرحته بالعيد، وفرحتنا كذلك بتحوّله إلى مصدر للمعلومات في كلّ شيء تقريبا، كما لو أنّه تلك المكتبة التي تخيّل بورخس أنّ الجنّة مقدودة على منوالها. فما زالت جنّة غوغل تخفي الكثير ممّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ويعسر توقّعه، ولكنّه يذهب بعيدا في النجاعة والسرعة والكمّ ليدهشنا أكثر فأكثر. إنّه الأداة الأهمّ في تشكيل الإنسان الرقميّ الحديث الذي لا نعرف، ولو على وجه التقريب، ما ستكون عليه الإنسانيّة خلال عقود قليلة قادمة.
لكن بعض ما نعرفه منه عندنا، نحن العرب، ضمن منطق السوق ورأس المال الغبيّ، مثير للاستغراب. فمن آخر ابتكارات تجّار الكتاب من الناشرين العرب، أنّهم حوّلوا تطبيق الترجمة التي يوفّرها غوغل مجانا إلى وسيلة لتدمير الثقافة العربيّة وقطع جسورها الحقيقيّة مع الثقافات العالميّة، من دون أن يكون لغوغل ذنب في ذلك.
إذ توجد وصفة بسيطة في متناول اليد: خذ أيّ رواية، ما دام القرّاء العرب يقبلون على قراءة هذا اللون من الأدب. انقل الفقرات الواحدة تلو الأخرى في الخانة المخصّصة للغة المنطلق. انظر على يمين الشاشة تجد تلك الفقرات بلغة الضاد. انقلها إلى ملفّ "وورد" متتابعةً. وبعد النسخ والمسح والقطع واللصق تكون أمامك رواية كاملة.
لقد اكتشف بعض الناشرين، ويا للعبقريّة، هذه الطريقة السهلة، فكفتهم مشقّة الاتفاق مع الناشر الأصليّ لدفع حقوق الترجمة ومؤونة البحث عن مترجم كفء يتقن اللسانين، فيدفعون له مكافأته لقاء جهده في الترجمة، وما يتبع ذلك من عنت صياغة عقود ملزمة.
غير أنّ نتيجة هذه الترجمة الآليّة محدودة جدّا، بحكم أنّ غوغل للترجمة ما انفكّ يجوّد قواعد الانتقال من تراكيب لغة إلى أخرى، ويثري قاموسه، ويطوّر إمكانات الأسلوب المعبّر عن خصائص هذه اللغة أو تلك عند نقلها إلى اللسان الهدف. لذلك يملي الضمير المهنيّ لهؤلاء الناشرين الذين يحترمون القارئ العربيّ ويرغبون في تقديم خدمة ثقافيّة إليه، أن يعرضوا حصيلة تلك الترجمة الآليّة على مراجع متمكّن من العربيّة ليعيد تحرير الرواية بكلّ حرّيّة. فمن المهمّ أن يكون النصّ النهائيّ مقروءا سلسا جذّابا، لا تبرز فيه تعثّرات نقله من لغة أجنبيّة.
وبعد هذه العمليّة الدقيقة في إعادة الكتابة والتحرير، وحين يستقيم النصّ عربيّا فصيحا مقروءا يلقي به إلى المطبعة كي يخرجه إلى الناس لكن من دون اسم المترجم ولا المراجع.
وليس يهمّ بعد ذلك مدى الوفاء للنصّ الأصليّ، فالقاعدة القديمة الشائعة في الترجمة في شأن المترجم الخائن الخوّان يفهمها هؤلاء الناشرون بدلالتها الحرفيّة. فلا يهمّ أصلا ما أتاه غوغل نفسه، لمحدوديّته الآن، من تحريفات للنصّ الأصليّ ولا ما شذّبه منه المراجع كي يستقيم النصّ نفسه في لسان عربيّ مبين. المهمّ ألا يشكّ القارئ في أنّه يقرأ الرواية نفسها، وأنّى له أن يعرف الفروق الجوهريّة بين الأصل والمسخ الذي بين يديه؟
هذه واحدة من آخر إبداعات النشر العربيّ: جريمة في حقّ الأدب العالمي وحقّ فنّ الرواية وحقّ الثقافة العربيّة، علاوة على الجرائم القانونيّة الأخرى في باب حقوق التأليف والترجمة والحقوق المجاورة. إنّها جريمة تنضاف إلى جرائم القرصنة وهضم حقوق التأليف والنسخ الإلكتروني وإعادة إصدار الكتب في طبعات مزوّرة وغيرها كثير.
فأيّ مستقبل لثقافة عربيّة يقتل فيها الكتاب الثقافيّ والكتاب عموما وتنتهك قواعد العمل المهنيّ وأخلاقيّاته إذ تتحوّل فيها الثورة الرقميّة إلى أداة للتشويه والتدمير والقضاء على الكتاب وقطع جسور التواصل مع الثقافات العالميّة؟ أيّ تشويه لعقل القارئ العربيّ من أجل بضعة ملايين من الدولارات؟ أين تطبيق القانون ضدّ هؤلاء الفاسدين المفسدين؟ من يتحمّل المسؤوليّة؟