لم تكن مقابلة خالد بحاح الأخيرة في البودكاست له سوى محاولة يائسة؛ لإعادة تعويم رجلٍ سقط سياسياً منذ اللحظة التي اختارته فيها جماعة الحوثي رئيساً للحكومة بعد رفضها للدكتور أحمد عوض بن مبارك.
فالمشهد وحده يفضح صاحبه جماعة انقلابية مدعومة من إيران تختار “رئيس حكومة توافقي”، ولم تجد أمامها سوى خالد بحاح.
وهذا وحده يكفي لتعريف موقعه الحقيقي من المعادلة الوطنية. يحاول الرجل اليوم أن يلقي بتهمة ومافي نفسه النرجسية على الرئيس عبدربه منصور هادي، متناسياً أن هادي كان يقاتل دولة عميقة، وجيشاً مخترقاً، وتحالفاً بين صالح والحوثي، فيما كان هو يتنقل بين العواصم باحثاً عن موطئ قدم في صفقة سياسية تعيده إلى السلطة، ولو على أنقاض اليمن كله لم يعد النقاش حول خالد محفوظ بحاح مرتبطاً بتصريح هنا أو ظهور إعلامي هناك، بل أصبح ضرورة لإعادة وضع الحقائق في سياقها الصحيح فمن المهم للرأي العام، وللتاريخ قبل السياسة، أن يُكشف المسار الحقيقي الذي بدأ منذ تعيينه وزيراً للنفط في حكومة باسندوة عام 2012 عندما دخل إلى واحد من أكثر القطاعات حساسية وتعقيداً، حيث شهدت تلك الفترة إعادة هيكلة عقود الغاز وتفاوضات مثيرة للجدل مع توتال وكوريا وجهات أخرى، وقد اراد الرئيس هادي اعادته الى هذا الموقع الذي كان يشغله بحاح في عهد صالح باعتباره احد اطراف الفساد التي رافقت تلك الصفقات المشبوهه والمرحله لم يقدّم خلالها أي إصلاح جوهري بينما ازداد حضوره وسط شبكة معروفة من رجال الأعمال والسمسرة والنافذين المرتبطين بتلك الفترة، وهذه الشبكة سترافقه لاحقاً في كل محطة سياسية.
وعندما سقطت صنعاء في 21 سبتمبر 2014 وبدأت مشاورات تشكيل الحكومة، قدّم الحوثيون خالد بحاح الذي وقع عليه اختيارهم، وقبولهم به كان سياسياً ووظيفياً لتوافقه على العمل داخل نفوذهم.
بعد رفضهم لتعيين الدكتور احمد عوض بن مبارك وبالفعل، عندما أصبح رئيساً للحكومة لم يُصدر موقفاً واحداً يدين سيطرة الحوثيين على مؤسسات الدولة أو اقتحام الوزارات أو فرض اللجان الثورية، بل عمل تحت سيطرتهم دون احتجاج، بينما قدّم وزراء آخرون استقالاتهم أو توقفوا عن العمل.
وحتى عندما فُرضت الإقامة الجبرية على القيادة الشرعية في يناير 2015، كان خروج الرئيس هادي ومغادرته قراراً شجاعاً أنقذ الشرعية، في حين خرج بحاح لاحقاً “بتفاهم” يُطرح حوله كثير من علامات الاستفهام داخل الشرعية والتحالف.
وبعد انتقال الحكومة إلى الرياض وتعيين بحاح نائباً للرئيس ورئيساً للحكومة، لم يعمل الرجل ضمن بنية الدولة، بل بدأ يتصرف كمرشح “الرئيس القادم” و "كما نقل الوزراء والمستشارون"، وسعى لبناء مركز قرار موازٍ ينافس الرئيس هادي ويمر عبره الوزراء، وهو ما خلق فجوة داخل الحكومة في وقت كانت البلاد تواجه انقلاباً شاملًا.
ومع بداية الوساطات التي احتضنتها مسقط منتصف 2015م ظهر دور بحاح بوضوح في الاتصالات غير المعلنة مع ممثلين عن جماعة الحوثي عبر قنوات إقليمية وأطراف دولية، وهو ما دفع الرئيس هادي في اجتماع رسمي حضره المخلافي ومكاوي وآخرون إلى مخاطبته بحزم: “لا تفاوض خارج الشرعية”، كانت تلك أول لحظة مواجهة مباشرة تكشف حجم التجاوز.
وتزامناً مع اجتماعات الكويت في 2016م، حاول بحاح تقديم نفسه للمبعوث الأممي باعتباره “الرئيس التوافقي” القادر على ترتيب المشهد، في تماهٍ واضح مع طروحات الحوثيين وإعادة هندسة الشرعية بما يخدم مشروع الانقلاب.
وبلغت ذروة هذا المسار عندما طرح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري خطة تقضي بتعيين نائب “توافقي” وتسليم السلطة الأمنية للحوثيين ضمن ترتيبات سياسية تتوافق مع الرؤية الإيرانية، كانت الخطة تعمل فعلياً على إنهاء الشرعية من الداخل، وكان خالد بحاح يسعى بقوة لتولي موقع الاداه التوافقية ، بينما رفض الرئيس هادي تلك الخطة بشكل قاطع ووصفها بأنها "انقلاب دبلوماسي جديد" .
ولم يكن ملف الاتصالات هو الوحيد، فملف الأموال التي وصلت عدن لصرف رواتب الجيش والمقاومة خلال 2015م–2016م كشف عن صرف خارج القنوات الرسمية، وكان المسؤول دستورياً هو رئيس الحكومة عن كل صرفيات تلك المرحله وهو ملف ظل حاضراً لدى التحالف ولدى أجهزة الدولة، وتزامناً مع ذلك توترت علاقته مع السعودية بعد مواقف متعالية نقلتها مصادر دبلوماسية، ليتحول الرجل من “واجهة توافقية” كما ظهر عام 2014م إلى عبء سياسي سقطت عنه الثقة إقليمياً وداخلياً، وصولاً إلى قرار 3 أبريل 2016 الذي أنهى مشروعه السياسي بإقالته من منصبي نائب الرئيس ورئيس الوزراء.
وفي مقابل هذا المسار كله، كانت الشرعية بقيادة الرئيس هادي تقاتل انقلاباً مدعوماً إيرانياً، وتحافظ على وحدة القرار، وترفض تمرير أي صيغة تلتف على الدولة أو تشرعن الانقلاب، وتمنع تحويل اليمن إلى ورقة تفاوض إقليمية أو دولية.
لقد أرادت طهران وبعض الدوائر الدولية صناعة اداة تقبل بالترتيبات المفروضة، لكن هادي رفض، وحافظ على ثوابت الدولة، ولذلك سقط مشروع “الرئاسة عبر الصفقات” وبقيت الشرعية.
. إن الهجوم الأخير الذي بشنّه بحاح اليوم لا يغير من حقيقة مساره، ولا من أن اختياره كان منذ البداية جزءاً من خطة الانقلاب لتطويع الحكومة، وأن صعوده وهبوطه كانا مرتبطين برهانات خارجية لا بمشروع وطني.
واليوم، بعد مرور سنوات، لا يمكن للرجل أن يعيد صياغة تاريخه بعبارات إنشائية، لأن الوقائع أقوى من الخطابات، ولأن اليمنيين يعرفون تماماً من وقف مع الدولة، ومن وقف مع فكرة البديل التوافقي الذي كان سيمنح الحوثي شرعية كاملة.
التاريخ لا يُكتب على لسان الغاضبين، بل على لسان الوقائع، والوقائع كلها تقول إن الرجل الذي حاول أن يمر عبر الانقلاب سقط، والرجل الذي واجه الانقلاب وثبّت الشرعية بقي واقفاً.
وتتجلى نرجسية خالد بحاح بأوضح صورها في تعليقاته المستهترة التي سعى من خلالها إلى تضخيم ذاته على حساب مقام الدولة، حين قال إن قرار تعيينه رئيساً للحكومة وصله بينما كان “في الحمّام”، وكأن الدولة لدى الرجل ظرف طارئ لا يستحق حتى لياقة الحديث.
. وامتد هذا السلوك ذاته إلى محطته الأخيرة حين رشّحه الرئيس رشاد العليمي سفيراً في القاهرة، فبدلاً من تقدير الثقة أو التعامل مع التكليف بوصفه واجباً وطنياً، طلب وقتاً “للتشاور مع من يملك قراره في سلوك يكشف انعدام القرار الشخصي، وغياب الاستقلالية، وتفضيل استشارة الخارج على احترام من أولاه الثقة من الداخل.
هذه المواقف لا تُظهر فقط الارتباك، بل تكشف الحجم الحقيقي للرجل؛ بيدق يُحرّكه الآخرون لا رجل دولة، مهما علا ضجيجه أو ارتفعت زوبعته الإعلامية الفارغة التي لم تستند يوماً إلى موقف، ولا إلى شجاعة، ولا إلى مشروع.
وللأمانه التاريخيه لم يواجه أي رئيس أو قائد يمني في التاريخ الحديث حجم محاولات الاغتيال التي طالت الرئيس عبدربه منصور هادي، إذ تعرّض الرجل لسلسلة هجمات ممنهجة بدأت منذ وجوده في صنعاء، حيث استهدفته الجماعات الإرهابية في خط الستين بعمليات تفجير مركّبة، ثم محاولة اغتيال داخل مجمّع العرضي، إضافة إلى عمليات رصد وملاحقة داخل العاصمة بعد انقلاب الحوثيين.
ومع انتقاله إلى عدن، تجددت المحاولات عبر تفجيرات انتحارية وهجمات صاروخية ومحاولات انقلاب مسلّح، في إطار استهداف سياسي وأمني غير مسبوق في تاريخ اليمن، ما يعكس حجم الدور الذي مثّله كرئيس منتخب تصدّى لمشروع إقليمي كامل كان يسعى لإسقاط الدولة وإحلال سلطة انقلابية بديلة.
. إن كثافة هذه المحاولات وطابعها المتنوع — من الإرهاب إلى الانقلاب — لم تُسجّل تجاه أي قائد يمني آخر، وهو ما يكشف حجم المعركة التي خاضها الرجل دفاعاً عن الشرعية والجمهورية في لحظة فارقة من تاريخ اليمن.