العزيز الكاتب الأنيق والقلم الرشيق: محمد بن عبد الوهاب الشيباني قرأت باستمتاع مقالتكم «تعز ليست بخير»، وأزعم أني من قرائكم المعجبين. مقالتكم تصب في نهر الإنارة والاستنارة الواهنة في اليمن كلها. اليمن المنهوبة المنكوبة- كتسمية الأحرار اليمنيين منتصف القرن الماضي- أصبحت في السنوات العجاف تعيش أسوأ كارثة. فقد أكلت أبناءها الحروب، ودمرت كيانها وبنيانها. عمرانها خراب، وأرضها يباب. تغولت فيها وغالتها مليشيات رياح حرب آتية لا تبقي ولا تذر. تلاقحت الحرب الأهلية بالإقليمية بالكونية؛ لتلد مسلسل حروب ودمار وأوبئة فتاكة ومجاعة تلف غالبية السكان بجلبابها المميت، ويشرد داخل بيئتها الموبوءة ما يقرب من نصف مليون، ويبلغ القتلي فيها عشرات الآلاف، والجوعى أكثر من ثلثي السكان، ولا عاصم من الموت إلا الموت. حياة ضنكة لا يعيش فيها اليمن ولا يحيا -كتصوير القرآن الكريم لأصحاب النار-.
رجعتم أخي العزيز لمقولة المفكر العربي أستاذنا الدكتور أبو بكر السقاف عن توصيف تعز كريف لعدن. والحقيقة أن الكلام ليس على إطلاقه. فهو صائب فترة الأربعينات والخمسينات وشطر من الستينات، ولكن ما حدث بعد ذلك مختلف تماماً. فمنذ السبعينات انتقل الثقل السياسي والاقتصادي والثقافي إلى تعز، وتراجع- للأسف الشديد- دور عدن بسبب الظروف العامة التي نعرفها جميعاً.
المدن اليمنية كلها والحضارة والعواصم والازدهار والرخاء تتقلب وتنتقل في اليمن، لعدم وجود نهر كما هو الحال بالنسبة لنيل مصر، أو دجلة والفرات في العراق ودمشق. ومن هنا نقرأ مارب، سبأ، وقرناو معين، وظفار حمير، وصنعاء قبل قرنين من الإسلام، وفيما بعد تبادلت المواقع جبلة الصليحيين، وصعدة الإمامة الهادوية، والمواهب وضوران في الدولة القاسمية، والمذيخرة في دولة ابن الفضل، و زبيد في الدولة النجاحية والزيادية. وكانت الحديدة وتعز تتباريان على المكانة والنفوذ السياسي والتجاري بعد 48 وحتى قيام الثورة.
إدراكنا للتقلبات للمركز الواحد التاريخي تدحض مقالة "المركز المقدس"، أو الهضبة الشمالية الملغومة بمعانٍ ودلالات ليست بالصائبة أو الواقعية.
"المركز المقدس" لم يكن مقدساً في نهب 48، ولا في حروب الثمان سنوات بين الجمهوريين والملكيين، ولا عبر تاريخ طويل يمتد منذ مطلع القرن الثالث الهجري. أصبحت صنعاء أكثر المدن عرضة للاحتراب واجتياح القبل الهمجية والجائعة. فكتابا «حوليات يمانية» للحرازي، و«يوميات صنعاء» للمؤرخ الكبير يحيى بن الحسين يلقيان أضواءً كاشفة على التاريخ الآثم لمعاناة صنعاء وأبنائها. فالإمام أو الداعي - ابن صنعاء- يدرس ويتربى فيها، ولكنه إذا طمح للإمامة فلا بد له من الخروج إلى القبائل القريبة والبعيدة لتحشيدها نظرياً ضد الإمام الظالم، وعمليا ضد المدينة الفاسدة والفاسقة والخارجة على الإسلام.
حروب التاريخ الآثم لا تخرج عن هذه المعاني المقيتة، وحروب 48، و62، وأحداث أغسطس، وحرب صالح ضداً على تعز وعدن وحضرموت تختزن الخروج الإمامي الكالح. ما جرى ويجري منذ انقلاب 21 سبتمبر 2014 شاهد غياب مركز مقدس، أو وجود دولة عميقة والتي تردد كمسكوكات بدون بصر وعمق.
توجد في اليمن قبيلة عميقة هي الأقوى، وجهة عميقة هي الأقوى أيضاً. البنية القبلية - وإن ضعفت كبنية اجتماعية وكعصبية وأسرة ممتدة- إلا أنها تبقى قوية وفاعلة وحية كفكر وقيم وتقاليد وأعراف بالية لا تزال تعشعش في أذهان الكثيرين حتى من بعض مثقفينا.
يعلمنا التاريخ أن كثيراً من القوى المجتمعية قد تفقد السيطرة والتسيد لكن أفكارها وقيمها ومعتقداتها قد تبقى حاضرة ومتعايشة مع البديل الجديد. فالأسطورة والخرافة الآتية من عصور ما قبل التاريخ باقية وحية.
مقالكم «تعز ليست بخير» والذي نشر في العام 2017 مؤشر لواقع الحال، كما لو كُتِب تواً. فحالة تعز- كإشارتكم- تختزل مأساة اليمن كلها كهتك اجتماعي باعتلالها الجغرافي، وكمائنها الطائفية، وثنائية الشمال والجنوب، كأحد أهم تمظهرات الأزمة، كقراءتكم الذكية والمنيرة.
كثيراً ما أشار المفكر الكبير السقاف إلى التفاوت في المجتمع اليمني، ويقارنه بالتفاوت القائم في المنطقة العربية كلها. وقد قرأتَ في تعز وريفها هذا التفاوت، كما قرأت روح الشغف بالهجرة، وبإتقان الحرف والمهن والصنائع في ريف تعز. وإذا كان العمل -كما يقول بعض الفلاسفة هو الخالق لهذا الإنسان، فإن الحرب هي القتل الفاحش له، وهو ما تشهده تعز كرمز لليمن كلها.
ما حصل ويحصل في تعز هو العداء الحقيقي لثورة الربيع العربي التي كانت المدينة وأبناؤها سباقون في إشعالها، وكان شبابها وشاباتها العناوين الأبرز في ثورة الربيع العربي، وفي إذكاء شعلة ثورتي سبتمبر وأكتوبر، وكانوا مداميك مؤسسات المجتمع المدني والعمل التجاري، وقادة التعليم الحديث والعمل النقابي والحزبي.
قلمكم عزيزنا أحد المصابيح المضيئة في ظلمات الحرب، وغياهب الثارات، وظلمات الفكر الأعمى. تحية ودٍ وعرفان ووفاء.