أجيال السنوات الضائعة

شاب في مقتبل العشرينات من العمر همس في أذني متسائلاً: «كم من الزمن يحتاج العالم لكي يتعافى من زلزال (كورونا)»؟
فكرت قليلاً، ثم أجبته: «من خمسة إلى عشرة أعوام». نظر الشاب إلى أسفل، هز رأسه في أسى واهن، ليقول:
«كان عمري 13 عاماً عندما اندلعت أحداث الربيع العربي عام 2011. عشت سنوات الفوضى، واشتد عودي على أمل استعادة الدول لمؤسساتها واقتصادها وانضباطها، أجلت أحلامي وطموحاتي بصفتي شاباً، وتفاءلت بأن العالم العربي سيتعافى. لكنني الآن، وبعد مرور عشرة أعوام، بلغت من العمر 23 عاماً، تصطدم أحلامي بكارثة أكبر، وهي فيروس (كورونا) الذي لا شك أنه سيترك آثاراً سلبية على الاقتصاد العالمي»، ثم واصل الشاب قائلاً: «إذاً أنا ابن جيل يضيع نصف عمره تقريباً في تداعيات وارتدادات الكوارث».
تأملت كلام هذا الشاب... نعم هو ابن جيل يشبه الأدوار «المسحورة» التي لا تتوقف عندها المصاعد. جيل عطلت الكوارث والأحداث خلال عقد مضى جزءاً كبيراً من أحلامه، ما إن يفيق من تداعيات الربيع العربي، حتى تصدمه كارثة وبائية.
اللافت للنظر هنا أن هذه الكوارث والأحداث خصمت من أحلام ورصيد جميع الأجيال، فإذا كانت أحداث الربيع العربي مرت عليها عشر سنوات، ولا تزال تداعياتها قائمة، فإن أحسن التقديرات تقول إن تداعيات «كورونا» أيضاً ستستمر عشر سنوات مقبلة. إذاً نتحدث عن عشرين عاماً صارت سنوات ضائعة من عمر الأجيال العربية.
ربما تكون آثار الربيع قد لحقت فقط بالعالم العربي، لكن كارثة «كورونا» ستترك آثارها على العالم أجمع. لم تعد هناك قوى بمعزل عما يحدث. الخطر يحدق بالجميع، لست بطبعي من المتشائمين في أحلك الظروف، فقد مرت الأمة على مدار تاريخها بكوارث كثيرة، ربما يكون «كورونا» أخطرها، لكن الأزمات تأتي وتذهب، وعلينا أن نبحث عن الازدهار بعدها تماماً. هذه المرة الدرس قاس على الجميع، بدءاً من عزل الأطفال خلف أربعة جدران، وصولاً إلى ورطة العالم في ما آلت إليه أحوال البلاد والعباد. العالم في لحظة فاصلة. الوباء كشف نقطة نظام، صارت واجبة وحتمية، في هذا الامتحان لم ينجح أحد. الحرية لم تشفع للشعب الإيطالي عند الوداع الأخير. الطب الرأسمالي لم يتخلَّ عن أنانيته في إنقاذ المواطنين. حمرة الخجل ارتسمت على وجه الليبرالية بعد أن ضاقت المستشفيات أمام ضحايا الوباء. الدول العظمى استيقظت على كابوس مرعب، الأوزان صارت ورقية. أوروبا لم تستطع النظر إلى مرآة كاشفة للعجز. سقطت مساحيق التجميل، وانصرف المعجبون. أميركا الرقم الصعب في معادلة إدارة العالم غرقت في المستنقع، المجتمعات الأكثر انضباطاً والتزاماً بالقانون هي التي استطاعت العبور، والصين نموذجاً. الوقت لا يزال مبكراً لقراءة مستقبل إعادة ترتيب العالم، قطعاً عالم ما قبل «كورونا» ليس هو نفسه عالم ما بعدها.
الكتالوج القديم لا يصلح لمستقبل حديث. قيمة المواطن صارت جزءاً من شروط العلاقة بين الحاكم والمحكوم. «كورونا» جعل العالم أشبه بمحل «خزف» صغير تتجول فيه الأفيال. الدول التي تمتلك مؤسسات «صلبة» ستنجح في مواجهة هذا النوع من الكوارث.
الوباء جاء ليكشف عن «عيب صناعة» في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. إعادة ترتيب موازين القوى هذه المرة يقوم على معايير مختلفة، في مقدمتها المعيار الاقتصادي والعلمي. إنقاذ المستقبل يحتاج التوقيع على بياض في بنوك المعرفة. العودة إلى العلماء باتت فرض عين. الإنفاق الهزيل على مراكز الأبحاث العلمية أثبت أن العالم يفتقد لرؤى بعيدة النظر. المجتمع سلم نفسه للوباء مع أول صفعة، اعترف بالتقصير أمام محكمة التاريخ، الكبار قدموا أنفسهم رهناً لمن يمتلك مفتاح الخروج من أيام العزلة، لو عاد الزمن بالكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، لأعاد النظر في كتابة رواية «مائة عام من العزلة»، «الأيام الكورونية» حبلى بخيالات أوسع.
تبارت أقلام المفكرين والمنظرين حول الدور الذي يلعبه الوباء في تغيير العالم. رأي قال إنه لم يعد ينظر إلى الولايات المتحدة، الآن، بوصفها زعيماً دولياً، انطلاقاً من التجربة التي كشفت عدم كفاءة حكومتها، ونظرتها الضيقة للمصالح الشخصية، ورأي توقع أن العولمة ستتمحور حول الصين، بينما رأي ثالث توقف أمام انتقال النفوذ والتأثير من الغرب إلى الشرق.
ربما تتباين الآراء، فالنتائج والأرقام تحتاج إلى قراءة عميقة.
في أجواء البحث عن مستقبل عالم ما بعد «كورونا»، فإن العودة واجبة إلى الكاتب الأميركي بول كيندي، لإعادة قراءة تنبؤاته حول صعود وهبوط القوى العظمى، فما قاله المؤلف عام 1989 ليس بعيداً عن عام 2020 الذي سيشهد أيضاً صعود وسقوط قوى عظمى في زمن «كورونا». بول كيندي هو نفسه المؤلف الذي تحدث عن وعود مخاطر القرن الحادي والعشرين، مشيراً إلى أنه مع تزامن احتفال الأمم المتحدة بعيدها المئوي عام 2045، ستكون الصين أكبر قوة اقتصادية وإنتاجية في العالم، وسوف تفوق من حيث الحجم الولايات المتحدة، وقد تصبح الهند صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في العالم، وأن البرازيل وإندونيسيا، ومن المحتمل روسيا، ستحقق تقدماً سريعاً يفوق معدل النمو الاقتصادي في أوروبا.
هذه التنبؤات لا يمكن فصلها عن التحديات التي تواجه البشرية الآن بسبب «كورونا». نعم، كبرى الدول صارت مهددة. الأزمة لم تعد محلية. من نكد العولمة على المرء أنها وحدت الهموم والكوارث والمصائر أيضاً. حالة من عدم اليقين حول حجم آثار الوباء على اقتصاديات القوى العظمى.
إنقاذ العالم صار على المحك. الدروس المستفادة تقتضي عدة إجراءات حمائية، تأتي في مقدمتها: ضرورة العودة، وبأقصى سرعة، إلى إعلاء قيمة العلم والعلماء والمعرفة، عبر مراكز بحثية دولية تبحث كيفية ضخ «أكسجين الحياة» إلى العالم الجديد.
أيضاً تشكيل مجلس حكماء لدراسة كيفية إدارة العالم، وأي الأنظمة التي تناسب العبور من ارتدادات واهتزازات وباء القرن الحادي والعشرين، وتواكب المخاطر الاقتصادية الناجمة عنه.
ضرورة تعاون وتكاتف المجتمع الدولي لطمأنة المجتمعات النامية، أيضاً ضرورة أن يحظى قطاع الصحة بكل دول العالم بأعلى ميزانية للإنفاق، وأن يكون جاهزاً في أي وقت لمثل هذه العواصف.
وأخيراً أقول: إذا عطست اقتصاديات الدول الكبرى، أصيبت دول العالم بالبرد، فما بالنا إذا أصيب اقتصادها بـ«كورونا». كيف سيكون حال العالم إذاً؟!


* رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي»