في رحاب الأدب

    بين الشعر والنثر ليست جديدة تلك المعارك التي تنشب احيانا بين أنصار ما يسمى بقصيدة النثر وبين الشعر العربي المتمثل في الشعر العمودي (القصيدة العمودية) وهنا تختلف الآراء والأقاويل والتصورات لطالما دار الحديث بيني وبين نفسي فقال لي صديقي الشاعر الذي يعاتبني كلما تركت ركوب الشعر ورجعت أمشي على قدميّ أخوض بهما في رمال النثر وللنثر شطئانٌ وللشعر ابحرُ .. ما الذي حملك على النزول من على صهوة الجواد؟.

    فمرّ بي من رذاذ الشعر فوج ٌ فإذا بي أدندنُ مع المتنبي : (مَا لَنَا كُلُّنَا جَوٍ يا رَسُولُ أنَا أهْوَى وَقَلبُكَ المَتْبُولُ كُلّما عادَ مَن بَعَثْتُ إلَيْهَا غَارَ منّي وَخَانَ فِيمَا يَقُولُ أفْسَدَتْ بَيْنَنَا الأمَانَاتِ عَيْنَا هَا وَخَانَتْ قُلُوبَهُنّ العُقُولُ).

    نسائم باردة فاحت بعطر صديقي السفير والأديب الجميل (عبدالله الحنكي) وقد أصابه الضجر والناس في بيوتها تنتظر الفرج مما الم بها من أخبار (كورونا) والحديث معتق بالشعر والشجن مع هذا الدبلوماسي الحصيف:

   "لقد ضقت ذرعا من (الواتس اب) هذا الذي يفيض بالضحالة ليس لأنها سياسة بل تفاهات فظيعة لذا ألوذ بالشعر والموسيقى!" لو لم يكن للشعر موسيقاه وأوزانه وبحوره وقوافيه لما لذت به أيها المثقف الرصين فلماذا يصر البعض على تسمية النثر بالشعر؟ز

    وهنا تذكرت ما قاله: الأديب العملاق عباس محمود العقاد وهو يجيب عن سؤالٍ وجه اليه في مقابلة تلفزيونية عن رأيه في ما يسمى بالشعر الحر وهو يقصد (شعر التفعيلة) فقال:

     الشعر الحر يتحرر من ماذا ؟ من البحور والقوافي؟ معنى هذا أن الشعر يتحرر من الشعر لان الشعر لا يُفهم من غير قواعده، وقواعد الشعر هي البحور والقوافي ويقولون أن الشعر الأوربي ليس له بحور وأوزان؟ نعم ، ولكن له قواعده التي تناسب لغته ولا يوجد إنسان يريد أن يغير لغته لا لشيء إلا لتصبح كلغة أخرى.

    أخذنا على سبيل المثال الشعر الأوربي نجد انه لا يخلو من القواعد، نلاحظ أولًا السطر، أو نلاحظ المقطع، او نلاحظ النبرة، وبعض الأوقات نلاحظ الزمن، (time) الذي ينشد فيه البيت أو السطر .. وإنما يفترق عن العروض العربي بان فنهم العروضي ما يزال يعاني من النقص و يعول على الفنون الأخرى، كالرقص والغناء.. ولذلك يسمون عندهم العروض با (foot) با (القدم) وهو ترتيب وقع القدم في حالة الرقص ويعتمدون عليه في الغناء وبهذا أصبح فن الشعر قاصرًا ومعتمد على غيره بخلاف فن الشعر عندنا في اللغة العربية فهو أتقن فنًا في لغات العالم جميعًا لانه استقل عن الغناء وعن الرقص ووجدت له أوزانه في كل بحر بحيث يمكن ان ننشده ولا نغنيه ولا نرقص على إيقاعه، وسبب هذا ان هناك فرق هائل ما بين لغتنا واللغات الأوربية لان لغتنا لغة إشتقاق تقوم على الوزن ولغتهم لغة نحت لا علاقة لها بالوزن على الاطلاق في لغتنا كل كلمة لها وزن في لغتهم لا تجد كلمة واحدة لها وزن، لا يلاحظ في الكلمات الأجنبية ان تعطى على وزن معين لكن هذا يلاحظ في الكلمات العربية، وزن الفعل وزن الفاعل، وزن المفعول، فَعَل َ يَفعِلُ فعل فعال مفعول كلها أوزان يتغير بها المعنى من الفعل إلى الأسم ومن الاسم إلى الصفة تبعًا للوزن فالوزن هو أساس اللغة عندنا ولا يعقل ان الكلمات يكون لها وزنها وان الشعر الذي هو أبو الموسيقى والوزن، يبقى خالٍ من الوزن ثم يتساءل العقادُ أنتم تريدون التخلص من الوزن ليه؟! إذا كان صعبا عليكم فالزجالون الأميون والكثير منهم لا يعرف القراءة والكتابة ينظمون الشعر على أوزان العرب ومنهم من نظم ملاحمًا شعرية طويلة كقصة (الزير سالم)، قصة (أبو زيد الهلالي)، قصة (سيف بن ذي يزن)، هذه ملاحم كاملة نظمت على حسب وزن الشعر العربي.. فإذا كان الوزن لا يصعب على العامي الأميّ فكيف يصعب على الشاعر المطبوع المتعلم والمثقف؟ وإذا كان صعبًا عليه؟ فليتركه بدلا من أن يغير في الوزن ويتطاول على اللغة العربية وقواعدها وأصولها.

    ويتساءل العقاد لماذا لا يسمى هذا النوع من الكتابة بالنثر بدلًا من الشعر؟. والعقاد _رحمه الله_ يتحدث هنا عن شعر التفعيلة فكيف به إذا تحدث عن ما يسمى بقصيدة النثر التي تكتب اليوم ويروج لها في كثير من المنتديات والندوات والمهرجانات الأدبية والثقافية.

    وكيف إذا قرأ العقاد وطه حسين ما ينشر اليوم ويطبع وتقام له حفلات التوقيع في قاعات فنادق الخمسة نجوم وهذه البهرجة والصور التي تلتقط والشهادات والالقاب التي تمنح من جهات ليست جديرة بذلك وما أقل الزاد أيها المسافر في هذا المهاد المثقل بالضحالة في كل شيء من السياسة إلى الأدب وما أشق السفر كم تشجيني تلك الصور البديعة التي تزهو بها الكثير من القصص والروايات والمقالات التي يفوح حبرها بجمال النثر وسحره فلماذا يصر البعض على الخلط بين هذه الفنون الأدبية واثارة الخصومة بينها كما يفعل فرقاء السياسة.

    دعونا نتذوق النص الشعري والنثري بنفس الذائقة وننتصر للأدب الرصين وليس للجدل العقيم .. كنت أقرأ في كتاب (المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها) للأديب السوداني عبدالله الطيب رحمه الله وقد ذكر أن شكوى النقاد والشعراء المعاصرين من نظام القافية أشدُّ وأمرُّ إذ القافية في نظرهم قيدٌ ثقيلٌ يمنع من التعبير الصحيح ويشغل الشاعر عن الأسترسال في معانيه بالتفتيش عن احرف الروي المناسبة .

    وهذه الحجة ضعيفة جدًا لان اللغة العربية واسعة جدا وبنيتها تساعد على كثرة القوافي إذ فيها أكثر من ستين ألف أصلٍ والأصول لها نظائر عدة ينتهي بمثل الحرف الذي ينتهي به ذلك الأصل نحو (ضرب، كتبَ، طربَ، سلبَ، هرب، ٌ تعبٌ، اربٌ، راغب،) وهلمَّ ما جرَّا ونحو (هدم، ولثم، وإرم، وبرمٌ، علمٌ، الم ثم أن هذه الأصول فيها نحو عشرين ألف أصل، ذي فروع ومشتقات تنتهي بها أصولها في الغالب نحو( كاتب، وكتب، وكتّب، وكتائب، وسلبَ، وسليب، وسالب، وأسلاب) وما لا ينتهي بحروف اصولها نحو (فرحان من فرح، وحسناء من حسن) يقع في صيغ تعين على كثرة القوافي كباب فعلان وفعلاء وفعلن كصيفن ولا تنسى الظمائر فإن لها في تيسير القوافي أثرًا عظيمًا. هذا الكتاب قال عنه الدكتور( طه حسين ): (هذا الكتاب ممتعٌ إلى أبعد غايات الإمتاع، لا أعرف أن مثله أتيح لنا في هذا العصر الحديث) شكوت إلى صديقي الشاعر والناقد والأديب الأريب الدكتور سعيد العوادي ما أجده من عنت في فهم بعض الكتابات النثرية فقال :

    وأنت تقرأ هذا النثر البعيد عن الفصاحة والبيان تذكر قول الله جل جلاله: *(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ....وقال:(قرآنا عربيا غير ذي عوج ...(وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ… .).. فلم نؤثر الاعوجاج على الاستقامة، ثم أسترسل في الحديث هل تذكر أيام زمان عندما كنا نقرأ قطعة باللغة الانجليزية .. كان الواحد منا يعبر عما فهمه منها ....يعني أن الكلام يفهم من خلال عموم الكلام لا من خصوص التراكيب ..وهذا عيب فادح) أنتهى حديث الدكتور العوادي.

    ورجعت إلى نفسي فإذا بصديقي الشاعر يزهو و يهمس الم أقل لك مالذي حملك على النزول من صهوة جواد الشعر؟، وتمتم قائلا أ لست القائل:

وأمة تقرأ القرآن في عجل ولا تفرق بين الشعر والهذر قلت له معاتبًا ما قاله: (باوند) "اعمل معولك في غرورك" فتبسم ساخرًا وقال : مالي أنا وباوند واناشيده؟ .. هل نسيت أمير البيان المتنبي وهو يقول: (أنام ملء عيوني عن شواردها ويسهر الناس جراها ويختصم ).. فتبسمت ضاحكًا أنا أحب نرجسية العملاق (المتنبي) ولكني أحب بساطة وأناقة (درويش) حين يقول:

    (أحنّ إلى خبز أمي و قهوة أمي و لمسة أمي و تكبر في الطفولة يومًا على صدر يوم و أعشق عمري لأني إذا متّ، أخجل من دمع أمي!.. وأحب (نزار)حين يقول:

   (صباحُ الخيرِ يا حلوة... صباحُ الخيرِ يا قدّيستي الحلوة... مضى عامان يا أمّي على الولدِ الذي أبحر برحلتهِ الخرافيّه وخبّأَ في حقائبهِ صباحَ بلادهِ الأخضر وأنجمَها، وأنهُرها، وكلَّ شقيقها الأحمر وخبّأ في ملابسهِ طرابيناً منَ النعناعِ والزعتر..)، وأحلق مع (السيّاب) حين ينساب في ملحمته ورائعته الشهيرة انشودة المطر : ((سيُعشبُ العراق بالمطر ... " أصيح بالخليج : "يا خليج.. يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والردى ! " فيرجع الصدى كأنَّه النشيج : " يا خليج يا واهب المحار والردى ." وينثر الخليج من هِباته الكثارْ، على الرمال، : رغوه الأُجاجَ ، والمحار وما تبقّى من عظام بائسٍ غريق من المهاجرين ظلّ يشرب الردى من لجَّة الخليج والقرار، وفي العراق ألف أفعى تشرب الرَّحيقْ من زهرة يربُّها الفرات بالنَّدى.

     وأسمع الصدى يرنّ في الخليج " مطر .. مطر .. مطر .. في كلّ قطرة من المطرْ حمراء أو صفراء من أجنَّةِ الزَّهَرْ .

    وكلّ دمعة من الجياع والعراة وكلّ قطرةٍ تراق من دم العبيدْ فهي ابتسامٌ في انتظار مبسمٍ جديد أو حُلمةٌ تورَّدت على فم الوليدْ في عالم الغد الفتيّ ، واهب الحياة . " ويهطل المطرْ..)) 

                                                                                                                              من صفحة الكاتب