كانت التحولات الحضارية والمدنية والثقافية في المرحلة المبكرة من الحداثة الأوربية مرتبطة بالنهضة التي تمتد نحو ثلاثة قرون منذ القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر، إذ تميزت النهضة باضطراب شامل وتداخل لانماط متعددة من صور الحياة وقيمها وأنماط السلوك والمواقف والافعال القديمة والجديدة، الشاذة والطبيعية، كان عصراً يعج بالحركة الدائبة والتغييرات الكثيرة، ومعنى النهضة هو بعث واحياء وحرفيا ميلاد جديد، او تكرار الميلاد ولقد اعادت النهضة بعث تراث الثقافة الكلاسيكية اليونانية والرومانية القديمة الى الحد الذي اطلق على ايطاليا القرن الرابع عشر، "هيلاس الجديدة". لكن النهضة لم تكن مجرد بعث التراث الكلاسيكي، بل توظيفه في سياقات جديدة. كانت ولادة شي ما لم يحدث أن تصوره أو صممه إنسان في الزمن الماضي، في كل مكان آخذت تشع نظرة جديدة للحياة والعالم والكون، تغيرت نظرة الانسان الى ذاته والى العالم والى الحياة والزمان، الفاعلية هي الشعار الجديد، الانسان الجديد يعمل وينافس ويتقدم ويغامر ويجازف ويخسر ويربح، ومع النهضة اخذت تنحسر "فلسفة البعث والنشور" التي كانت تصور الانسان مكبل بالاثم والخطيئة المقدرة عليه منذ ادم ولا فكاك له منها، الا بعون الله وارادته. ويذهب ارنولد توينبي، الى انه "خلال المدة الممتدة نحو 1400-1550م تبدلت الصورة العقلية لموطئ الانسان على الارض ومكانته في الكون، وذلك منذ اكتشاف الفكلي البولندي كوبرنيكوس (1473-1543م) إن الارض تدور حول الشمس مرة في السنة وانها تدور حول نفسها مرة كل اربع وعشرين ساعة" ثمة جانبان لهما الاهمية القصوى في نهضة اوروبا هما حسب- برتراند رسل:- تضاؤل سلطة الكنيسة وتزايد سلطة العلم، ويتصل بهذين الجانبين جوانب مختلفة ومتفاوتة. لقد كان عصر النهضة في بدايته عصر نقد وتمرد وتصميم وتشكيل، اكثر منه عصر بناء وتشييد وتعمير، ذلك لان الكثير من ملامح العصر الوسيط ظلت قائمة متداخلة في نسيج المجتمع الناهض، فمن الناحية الواقعية لم تنته العصور الوسطى بقيمها وتقاليدها الثقافية الراسخة، فجأة عند نقطة ما وظهر المجتمع الحديث الى الحياة عند نقطة اخرى. بل قد احتاجت أوروبا نحو ثلاثمائة سنة للانتقال من الجو الذهني للعصور الوسطى الى الجو الذهني للعالم الحديث وربما كانت الميزة الاساس التي تمتاز بها النهضة في كونها أفلحت في زعزعة الاسس القديمة التي كانت تقوم عليها فكرة الانسان والعالم والتاريخ في العصر الوسيط اكثر مما نجحت في تكوين تصور متكامل لما يجب ان يكون عليه الانسان الحاضر والمستقبل. لقد قدمت النهضة "الثقافة" التي شكلت الأرض الخصبة لتحضير ولادة الفيلسوف والفنان والعالم والاديب والسياسي والمؤرخ والحكيم والفقيه...الخ, "لقد كان عصر النهضة يتطلب عمالقة فأنجبهم، عمالقة في قوة الفكر "والاندفاع والطبع" أمثال : كوبرنيكوس 1473-1543، وكلبر 1571-1630، وجاليلو 1564-1642، وجبلر 1540-1603م، في المغناطيس وربرت بويل 1627-1691م في الكيمياء, وليفنهوك 2632-1723م، مكتشف الحيوانات المنوية واسحاق نيوتن 1642-1727م، مكتشف قانون الجاذبية وقوانين الحركة الديناميكية, لقد عززت الاكتشافات العلمية من ثقة الانسان بقدراته يقول الشاعر: "لقد كانت الطبيعية وقوانينها محجوبة في الليل" فقال الله لنيوتن كن وتحول كل شي الى نور" وشهد عصر النهضة أهم الاكتشافات الجغرافية للمناطق المجهولة فقد القى الاسباني كولمبس مراسيه في العالم الجديد عام 1492م، والقى البرتغالي فاسكودى جاما مراسيه على ساحل الهند الغربي 1498م واستطاع ماجلان في السفينة فكتوريا ان يدور لاول مـرة حول الارض (1519-1522), وغير ذلك من الاكتشافات الجغرافية, وعلى صعيد الفلسفة والادب والتاريخ والسياسة، هناك كوكبة لامعة من الاسماء التي ازدهرت في عصر النهضة امثال جوردانو برونو (1548-1600م) وبيك دولامير اندول 1494 وتوماس مور (1487-1535م)، ونقولاي ماكيافيلي (1467-1527م)، وكأمبلانيلا ومارسين فيسين 1499 كل هذا الزخم الثقافي العلمي الفني الادبي، ترافق مع حركة الاصلاح الديني على يدي لوثـر (1483-1546م) وكلفن 1506-1564م)، وزونغلي (1484-1531م)، الذين نادوا باصلاح الكنيسة وبالخلاص الفردي، ولم تكن هذه النهضة الثقافية الشاملة في حقيقة امرها الا حصيلة تفاعل جملة من العوامل والقوى الاجتماعية والاقتصادية والمدنية، تطور المدن وازدهار التجارة والصناعة ولدول والثورات الاجتماعية والعلوم والمناهج. ويمكننا اجماع الموقف كله بالقول، انه عصر الاكتشافات الفلكية والاكتشافات الجغرافية والاصلاح البروتستانني وضروب الابداعات الثقافية واختراع وانتشار الطباعة والسفينة البخارية والبارود، والبوصلة، وبروز الامم الدول، على اسس قومية وبدايات الاقتصاد الرأسمالي وظهور المدن وبداية التمايز الاجتماعي والصراع الطبقي. لقد اطلقت النهضة طاقات الانسان، وافضى ذلك الاهتمام المتزايد بالحياة الانسانية، وبالجسد الانساني والطبيعة الحية، الى رؤية جديدة لكل شي، وبدلا عن المحنة حل الفرح، وباستعمال الانسان للقوى التي وهبها اياه الله حلت الحرية في توجيه العقل بدلا من الخضوع لارادة الكنيسة، واخذ البحث الفكري يحل مكان التبلد والعقم والكسل- وبكلمة تفجرت من ذات الانسان طاقاته الانسانية** الكامنة المتعطشة للحرية والابداع والتنافس والصراع والمغامرة والطموح والبطولة والشجاعة والايمان باللحظ واقتصاب الفرص. لقد نظرت النهضة الى الانسان وقواه بعيون انسانية إذ جعلت "انسانوية" النهضة من الانسان غاية المعرفة واداتها في ان واحد، يقول فيلسوف النهضة (بيك ميراندولا 1463-1494م) في رسالة "كرامة الانسان", "أيه يا آدام... العالم لم يخلق من أجل الانسان، ولكنه مصنوع من لحمه ودمه، ذلك الكائن الذي وهبته الالهه ارادة حرة والذي يحمل في ذاته بذور الحياة التي لا تحصى، اذا ما استعاد كرامته، لا يبقى ثمة ضياع، ولا يبق ثمة قلق، الشياطين التي كان يخافها انسان العصور الوسطى القت بنفسها في الجحيم ومعها الصليب الذي كان يبدو مكرساً لحمايتها، العالم اضحى من جديد فرح الانسان وحلمه وطموحه"على هذه النحو اخذت تعود ثقة الانسان بذاته وبعالمه وأخذ الانسان يثق بقدرته على التقدم والتطور، استعاد الانسان ذاته وعظمته حسب ياكوب بوهم (1575-1624م) "الانسان ذلك الكائن العظيم الذي ترقد السماء والارض وكل الكائنات والله نفسه في اعماقه" وبهذا المعنى يمكن ان نفهم تعريف (آلان تورين) للحداثة في كتابه ( نقد الحداثة) بقوله: " إن فكرة الحداثة في شكلها الأعظم طموحاً كانت التأكيد على أن الإنسان هو ما يصنعه بذاته ولذاته" ومن النهضة انبثقت الحداثة وفلسفتها للتاريخ والحضارة، كما عرفها عـالم الاجتماع الالمـاني (ماكس فيير 1864-1920م) بقوله: "ان الحداثة تعنى العقلنه، وبهذا المعنى تكون الحداثة مشروعاً انسانياً لبناء المجتمع في كل جوانبه على اسس عقلانية، مجتمع يعيش وينظم نفسه ويتصرف بعيداً عن كل غائية غيبية "وسحر اووهم" ملاحظة:
يقسم الآن تورين الحداثة على ثلاث مراحل:
- المرحلة الاولى:- الحداثة المبكرة,.
المرحلة الثانية:- الحداثة المظفرة.
المرحلة الثالثة:- الحداثة المتاخرة..ينظر، الآن تورين نقد الحداثة، القسم الأول، ترجمة صياح الجهيم، وزارة الثقافة، دمشق 1998 ص3.
مقتطف من كتاب في طور الاكتمال