من ملف الذكريات ...

وانا عائد من سفريتي القصيرة الى مسقط راسي في المضاربة,  نظرت الى الغرب على يميني وانا في مركبتي فرأيت قرية متناثرة المنازل يتوسطها دار قديم يقع على تلة,  وقد بدا عليه الاجهاد والتهالك من عوادي الدهر يختلف عن منازل القرية شكلا ومضمونا,  إذ بني بالاحجار السمراء التي لا تختلف كثيرا عن لون الساكنين فضلا عما يحمله من رسم الطراز المعماري الذي يشي بقدمه ويكشف أصالته. فعدت قليلا افتش في الذاكرة وإذا بي أتذكر أن هذه القرية هي موطن صديقي العزيز ورفيقي في السلاح ذات يوم العميد صالح احمد قعو ـ بضم القاف وتضعيف العين ـ وأني قد تناولت طعام الغداء في مأدبة كريمة أقامها العميد صالح بمناسبة قدومي إلى منزله,  بعد أن جمعتني به الصدفة قبل بضع سنوات في معسكر خرز للاجئين الصوماليين الذي يبعد عن هذه القرية بضعة كيلومترات وأصر حينها العميد صالح أن أتناول طعام الغداء معه في منزله الذي لم أكن أعرفه من قبل البتة. وقبل أن نتناول الطعام حضر كثير من القوم يرحبون بي قائلين : مرحبا بك في السهالة , أخذني الفضول كعادتي فسألت أحدهم ماذا تعنون بالسهالة?  قال إنه اسم قريتنا هذه,  عندها ذهب بي الخيال إلى ماهو أعمق في أرشيف الذاكرة,  فتذكرت أن أمي كانت تحكي لي قصة طريفة حصلت لجدي الشيخ سيف سالم الهجرم العلقمي في قرية تسمى السهالة وهي في جنوب المضاربة بالقرب من ساحل خليج عدن  فقلت في نفسي: هل هذه هي السهالة التي قصدتها أمي حين كانت تحدثني عن جدي ? الأمر الذي جعلني أعود للتساؤل مرة اخرى فنظرت إلى أقربهم مني في ديوان العميد صالح,  وسألته هل هناك قرية أخرى تسمى السهالة في هذه المنطقة?  قال : أجل,  ولكن ما يميز قريتنا هذه أننا نسميها سهالة العوطف ـ بتشديد الطاء ـ فقلت له : هاااااااه إذ شعرت أن اللبس قد زال وأن سهالة العوطف هي ما كانت تعنيها أمي وهي تسرد لي قصة جدي. التفت على يساري  , أنظر إلى ابني أحمد يقود بنا المركبة ـ وهو أكثر إخوانه إعجابا بأبيه ـ فتنهدت نهدة  طويلة ثم أتبعتها بالقول : ما أعظم هذه القرية !!! ـ وعيناي شاخصتان نحوها ـ فرد علي ابني  الدكتور الصيدلاني أحمد ـ بعد أن ظن أنني انتظر منه جوابا ـ استفهمت أم تعجبت يا أبي? فقلت له: بل تعجبت يا بني !!! فقال : وما الذي أثار إعجابك يا أبي مع أنني لا أرى فيها مايبعث فضول العين أو يستهوي الفؤاد?  قلت له : معك حق يا بني فأنت لا تعلم ماهي قصتي مع هذه القرية !!! فقال : احكيها لي يا أبي فأنا في شوق إلى سماعها.... سأفعل يا بني : في زمن من التاريخ الغابر كان في هذه القرية شيخ يسمى عبده قعو العاطفي,  وكان مقرب من السلطنة العبدلية في حوطة لحج,  ويرافق القائد العسكري للسلطنة العبد المنتصر في حله وترحاله,  استطاع الأخير أن يبسط نفوذ السلطنة العبدلية غربا على قبائل الصبيحة إلى مديرية المضاربة المعروفة اليوم. أقام العبد المنتصر العدل بين الصبيحة فاستتب الأمن.  كان الشيخ عبده قعو العاطفي يقطن قرية السهالة وبنى بها دارا جميلة سماها,  دار السهالة. في السهالة أقام العوطف وليمة كبيرة يومها بمناسبة زواج ثم دعوا قبائل الصبيحة لحضور هذه الوليمة,  قبائل الصبيحة كعادتهم يحضرون هذه الولائم أو يبعثون من يمثلهم في جموع غفيرة.  أعد العوطف لهذه الوليمة خدرة عملاقة ( مخدرة كبيرة ) سعة وارتفاعا مصنوعة من سعف النخيل وأخشاب الأشجار وحبال تصنع من سعف النخيل الرطبة. أهم ما يميز هذه الولائم يا بني أنها تمثل ما يشبه المنتديات الأدبية اليوم,  فكل قبيلة تعرض في ذلك الملتقى شيئا من فلكلورها الشعبي وفنونها القتالية وقدراتها الأدبية فضلا عما تقدمة كل قبيلة من رفد للعريس . أما القبيلة المستضيفة فتقوم بإعداد مستراح لكل قبيلة في الخدرة وتقدم لهم الطعام فضلا عن الإستقبال بحفاوة . كان قائد جمع قبيلة العلقمة ـ بتشديد القاف ـ  يومها جدي الشيخ سيف سالم الهجرم يا بني ......هااااه وما الذي تميز به جدك الهجرم يا أبي?  على رسلك يا بني ..... بعد صلاة العصر قامت القبائل ترشح المتميزين بالقوة والمهارة  منها في فن البرع الذي هو أحد فنون الفلكولور الشعبي الصبيحي ـ وقد اختفى من فلكلورنا اليوم إلا ما ندر ـ فكان جدي الهجرم أحد المرشحين للقيام بذلك الفن الرائع. وبعد أن استعرض المبترعون ما أبهر القوم من جماليات وإبداعات فن البرع,  وكان التنافس على من يستطيع تثبيت عمامته بين خشبتين من سقف الخدرة من الداخل ـ كان قد أعد سلفا لذلك ـ بقفزة من قفزات البرع إلى الأعلى ثم استعادتها إلى رأسه بقفزة أخرى من قفزات البرع دون أن يستعين بشيء من أطرافه,  يضعها بين الخشبتين برأسه ثم يستعيدها برأسه فقط.   فكان جدي سيف سالم الهجرم هو الفائز الأوحد في تلك المسابقة الكبيرة من بين جموع القبائل الحاضرة تلك المناسبة.  أفهمت يا بني?  هذا ما جعلني اتعجب من عظمة السهالة ...هااااااه لله در جدك يا أبي كم كان عظيما ..