الحرب السلسة و/أو الناعمة (هارد وور)، هي حسب الترجمات غير المحايدة المتداولة في الأدبيات المعربة، في صياغتها اللغوية الأصلية، مجموعة من الأعمال المعادية تستهدف تغيير القيم الثقافية الأساسية وهوية مجتمع ما. وهذا النوع من العمليات الحربية يؤثر في كل المظاهر الإجتماعية لأي نظام سياسي، ويمكن أن يتضمن ظواهر سوسيو-ثقافية، مثل "الغزو الثقافي" و" الحرب السيكولوجية".
الأدوات و/أو الوسائل بالمفهومين القديم والجديد، هي تلك الوسائط المادية وغير المادية التي تعمل وتساعد على تحقيق الأهداف القريبة والمتوسطة والبعيدة المدى لاستراتيجية الحرب السلسة. وتشمل هذه الوسائل بالضرورة، في شقها البشري، كل الأفراد والجماعات مهما كانت طبيعة تجمعاتهم مدنية، دينية، سياسية و/أوعسكرية...على أن يمكن تحييدها في حالة عدم تمكنها من العمل او المساعدة على تحقيق الأهداف المرجوة. كما تشتمل على وسائل الاتصال الجماهيري وبخاصة الوسائط الجديدة من وسائل على الخط، ووسائل إليكترونية وصحافة المواطنة وشبكات الواب الإجتماعية ومواقع التسريبات الديبلوماسية..
هذه الحرب المستمدة تسميتها من مجموعة البرامج واللواحق التي تسير الحواسب المشبكة لعالم اليوم، هي الأداة التي ابتدعتها الحضارة الاليكترونية لمواجهة الرأي العام الداخلي للناخبين الأمريكيين الذين عليهم، وفقط، يتوقف الوصول إلى السلطة والبقاء فيها، وذلك بجعل الخسائر البشرية في كل حرب تخوضها الولايات المتحدة في مستوى الصفر قدر الإمكان وجعل المحميين أو المدافع عنهم يدفعون فاتورة الخسائر المادية.، وهوماحصل في حروب الخليج بالنسبة للتكلفة المالية وفي الحرب التي خاضتها ضد القذافي بالنسبة للخسائر البشرية.
غير أن هذا الجانب، جانب المواجهة الصلبة (هارد وور) الذي يعيد للأذهان الحرب الكلاسيكية بأهوالها ومآسيها ومعاداتها منذ الحرب العالمية الثانية وما تلاها من حروب إقليمية و/أو وطنية، هو مرحلة نهائية في الحرب الناعمة لمواجهة مخاطر كبرى راهنة ، بعد استنفاذ المراحل الأساسية المعتمدة في سبيل تغيير الأضاع بسلاسة داخل مجتمع معين مترتب ضمن قائمة تدرج المخاطر المحدقة بالديمقراطية منذ تسعينيات القرن الماضي، أي مباشرة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالأحادية القطبية في تسيير شؤون العالم، وبدء ما يحلو للأمريكيين أن يسمونه "العصر الأمريكي"، تقوم هذه القوى التي يعتقد أن التاريخ لما يشهد لها مثيلا بعد، بترتيب الأمور لمحاولة تجسيد مضامين نظرية الحرب الناعمة، وبالذات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ذات التاثير الإسلامي القوي بعد إنشاء الجمهورية الإسلامية في إيران ومحاولة إنشاء أخرى في الجزائر بعد فوز التيار الاسلامي في انتخابات برلمانية في تسعينيات القرن الفارط.
لم يعد شعار الديمقوقراطية وحقوق الإنسان من أولويات استراتجية "أمركة" العالم إلا ظاهريا أو وفاء للنظام الدولي الذي أقيم بعد الحرب العالمية الثانية، لأن القيم الثقافية السائدة في مجتمعات تلك المنطقة لاتدرك ولا تفهم القيم الغربية بنفس المعنى المتعارف عليه في الغرب، وأن قادة تلك المجتمعات ليست نتاج تبارز وتسابق بين نخب اجتماعية-ثقافية، وبالتالي فهي لا تمثل المجتمع ولا يمكن الاعتماد عليها في المديين المتوسط والبعيد في حماية المصالح القومية الحضارية لأمريكا وللغرب كافة.
1- مرحلة التغيير الثقافي: إنفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم وإشرافها على بناء عولمة "مؤمركة" بفضل تفوقها العلمي والتكنولوجي والاقتصادي والعسكري...مكنها من إضفاء صفة " الكونية" على أسلوب الطريقة الأمركية في الحياة، وأصبحت العولمة تعني ببساطة "الأمركة" في محتوياتها ومضامينها، إلى جانب طبعا مظاهرها التكنولوجية والشكلية. القيم الثقافية المعادية للعولمة، أي للأمركة، مرشحة للزوال حتى لا تعرقل تحقيق الحلم الأمريكي وينبغي أن يبدأ التغيير من ها هنا، من البرامج التربوية التي تشرف عليها الحكومات القائمة التي يمكن التفاوض معها، ويمكنها المساهمة في حذف قيم تعادي الأمركة والقيم الموالية لها في الغرب وفي غير الغرب. ولعل هناك أمثلة عن البرامج التربوية الدينية لبعض الدول المشرقية.
وهناك أيضا تغييرات ينبغي أن تنجزها وسائل الاتصال والاعلام "المحلية" ، القديمة والجديدة، بأدواتها الذاتية التقنية والبشرية، بعد التأكد من تشويه صورة الغرب وتدهور مصداقية وسائله الإعلامية وانحيازها الفاضح للأطروحات الغربية. ومن أجل ذلك ينبغي تجنيد كل من يمكنه المساهمة في كسب ثقة مواطني المنطقة من سياسيين وأئمة وشيوخ ومرشدين وإعلاميين أيضا، فرادى وجماعات. ويمكن تسخير كل الإمكانيات المالية التي يحتاجها المنخرطون في تأدية مهامهم في سياق العولمة التي يمكن تكييفها لتستجيب لطموحاتهم الشخصية والجماعية وبالذات إنشاء فضاءات تعبير "حر" للأفراد والجماعات التي يتم قبول انخراطها في المسعى.
2- مرحلة المفاوضات الديبلوماسية: وهي تسير جنبا إلى جنب مع المرحلة الأولى، لتوفير بدائل فورية، لأن الأمور مستعجلة، ولايمكن انتظار بروز الصراع للواجهة لتفادي المرحلة النهائية، التي هي المواجهة العسكرية التقليدية. والديبلوماسية كوسيلة لتحقيق مصالح متبادلة، يمكن أن تصل إلى طريق مسدود في حالة تناقض صارخ بين الأهداف التكتيكية لكل طرف. يمكن اللجوء لوسائل الاتصال ولا سيما الجديدة منها لممارسة ضغط إضافي على الطرف الأضعف مثل ما يحدث مع التسريبات التي يتغذي منها موقع ويكي ليكس منذ 2010.
3-مرحلة الحصار الاقتصادي: وهي مرحلة ما قبل النهائية، أي ما قبل اللجوء للمواجهة المسلحة التي ليست مضمونة العواقب في الوقت الراهن، وعليه يمكن أن يعول كثيرا على مرحلة الحصار الاقتصادي في إثبات الضرورة القصوى في تغيير القيم البالية واعتناق القيم الواردة لضمان لقمة العيش للأفراد والجماعات على حد سواء، ومما يزيد في مصداقية هذه الأطروحة، أن معظم الدولة العربية بما فيها البترولية، عاجزة على تلبية الحاجيات الأساسية للأغلبية الساحقة من شعوبها. فمرحلة الحصار الاقتصادي تستهدف الضغط على السلطات القائمة وفي نفس الوقت على المواطن البسيط الذي يجد نفسه بين مطرقة الحصار وسندان الجوع. في هذه المرحلة أيضا تقام محاولات سلسة ويمكن استدراج ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني او حتى السياسي والديني الطائفي والمذهبي... للانخراط في مسعى التغيير السلس حتى وإن كان في مرحلة أولى في غير صالح القوى الحاكمة أو الموالية للسلطات القائمة .
4- مرحلة المواجهة الحربية التقليدية وهي تعبير صارخ على الإرادة الصارمة في خلق عالم على المقاس يسمونها "عالم السلم" ( بيس وورلد). والأمثلة عديدة في العالم العربي خاصة في هذه العشرية الثانية من الألفية الثالثة، ابتداء من العراق في الحربين الأولى والثانية مرورا بمصر وتونس وسوريا واليمن.
غير ان القائمين على تنفيذ مراحل هذه الحرب الناعمة وبعد تجربة ميدانية في خريطة ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد، تبين أنهم أخطأوا مرتين:
1- الخطأ الأول يتعلق بقراء سطحية للحقائق الراهنة للعالم، حيث تبين أن الأمريكيين، كما تمثلهم مسلسلات صابونية في مقدمتها مسلسل دلاس، ليسوا مثلا يحتذى به في كل الثقافات ولدي كل شعوب المعمورة، وأن عزلة أمريكا خلف المحيط الأطلسي (بحر الظلمات) لا يجعل منها ملاكا، وأن عدم مشاركتها في الحروب الاستعمارية لا يبعدها عن الشيطنة.
الصدمة الموقضة كانت يوم 11 سيبتمبر 2001، حيث استيقط الأمريكيون ومعهم العالم على هجوم غير مسبوق وغير متوقع وبأدوات غير متوقعة، على مركز التجارة الدولي، رمز التفوق الإقتصادي، والبنتاغون رمز التفوق العسكرى، والدار البيضاء رمز التفوق السياسي.
2- الخطأ الثاني يتعلق أيضا بقراء سطحية لمكونات البناء الثقافي والسيكولوجي القيمي للإنسان العربي المسلم. وهذا نتيجة، للخطأ التضليلي الذي ارتكبه مفاوضوهم من حكام وسياسيين وأعضاء مجتمع مدني مفترضن في تفسير وفهم نفسية الفرد العربي المسلم وإن كان غير ممارس للواجبات الدينية.
الخلاصة الحتمية أن برامجهم الإليكترونية تبحث عن حلول للمشاكل غير المادية المطروحة، وأن العرب شعوبا وسلطات تنتظر تلك الحلول لتكتفي باستخدام مثل ما نستخدم الوسائط الجديدة. برامجهم ستعكف على إيجاد حلول لأعقد إشكلية وهي أن "النخب" التي يتعامل معها الغرب في مقدمتها الحكومات والجمعيات والمنظمات والأحزاب السياسية ليست تمثيلية للمجتمع، ولكنها مجرد جماعات لصوصية غير قادرة على تحقيق مصالحها بطرق شرعية.
*بروفيسور جزائري