رحمة للعالمين

 

وُلد يتيما، ونُزع حظ الشيطان من قلبه رضيعا، وعاش بين أهله صادقا أمينا، سمح إذا باع سمح إذا اشترى، يكرم الضيف، ويحمل الكَل، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق، أرتضته خديجة لها زوجا، وارتضته قريش بينها حكما، عاش شبابه كالغريب بين فتيان مكة، لم تستهوه مغامراتهم، ولم تجذبه مجالسهم، بُغضت إليه عادات الجاهلية وعباداتها، فلم يشهد منكرا، ولم يعبد وثنا، حتى ناهز الأربعين حين أكرمه الله بالرؤيا الصادقة، فكان لا يرى الرؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، وحُبب إليه الخلاء، فكان ينقطع الليالي ذوات العدد في غار حراء، يتحنث ويتأمل في ملكوت السموات والأرض، ويطعم من جاوره من المساكين، ثم يعود إلى أهله فيتزود بمثلها، حتى كانت ليلة السابع والعشرين من رمضان، حين شقت السماء حجبها واستقبلت الأرض أنوار ربها، فنزل عليه جبريل بالوحي، فغطه وأرسله ثلاثا، وقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: (ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ، خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنۡ عَلَقٍ، ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ، ٱلَّذِی عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ، عَلَّمَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مَا لَمۡ یَعۡلَمۡ).

ومن تلك الليلة صارت البشرية على موعد جديد مع قيادة جديدة وتاريخ جديد يستمر معها فيما تبقى من عمرها في الوجود على هذه الأرض. 

من تلك الليلة لم يعد محمد بن عبدالله الشاب الصالح الطاهر في نفسه فحسب، بل صار محمدا رسول الله، الرحمة المهداة للعالمين كل العالمين، عربهم وعجمهم أبيضهم وأسودهم، لا فرق بينهم عنده إلا بالتقوى، فهو اللبنة الأخيرة في صرح النبوة العظيم الذي ابتدأ بأبي البشرية آدم عليه السلام مرورا بنوح وإبراهيم وموسى وعيسى وكوكبة كبيرة من الأنبياء والرسل، الذين تجمعهم واحدية الرسالة وواحدية المصدر وواحدية المقصد، فلم يكن محمد صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل، وإنما هو كما قال عن نفسه: (مَثَلِي ومَثَلُ الأنْبِياءِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنى دارًا فأتَمَّها وأَكْمَلَها إلّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَجَعَلَ النّاسُ يَدْخُلُونَها ويَتَعَجَّبُونَ مِنْها، ويقولونَ: لَوْلا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ، فأنا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ، جِئْتُ فَخَتَمْتُ الأنْبِياءَ). صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.