نشر موقع "تسار غراد" الروسي مقال رأي للمؤرخ وأستاذ علم الاجتماع في جامعة موسكو سابقا، الملقب بـ "عقل بوتين"، ألكسندر دوغين؛ تطرق خلاله إلى تغييرات طرأت على ميزان القوى في أوكرانيا في الأيام القليلة الماضية.
ويقول دوغين في مقاله، إن هجمات القوات الأوكرانية المضادة باءت بالفشل في منطقة خيرسون رغم نجاحها في منطقة خاركيف، وبهذا يشكل الوضع في منطقة خاركيف والتراجع القسري للقوات الروسية نقطة التحول.
الحرب العالمية الثالثة
ويقول دوغين إن العالم اليوم يقف على شفا حرب عالمية ثالثة، يدفع الغرب روسيا إلى خوضها، مشيرًا إلى أن هذه ليست مجرد تخمينات أو مخاوف بل حقيقة ينبغي التعامل معها.
وبحسب الكاتب؛ تعيش روسيا اليوم في حالة حرب مع الغرب الجماعي، الذي يتجسد في الناتو وحلفائه، باستثناء تركيا واليونان الذين أعطوا أولوية لمصالحهم وعدد من الدول الأوروبية مثل فرنسا وإيطاليا.
وأعلن العديد من القادة العسكريين الأمريكيين على رأسهم القائد السابق للقوات البريّة الأمريكية بأوروبا، بين هودجز، أن الغرب غير راض حتى عن انسحاب روسيا من الأراضي التي كانت تحت سيطرة أوكرانيا وسيوجه ضربات للأراضي الروسية، مع الإصرار على الاستسلام غير المشروط.
ووفقًا لدوغين؛ فقد خدم انهيار الاتحاد السوفيتي والاستسلام الأيديولوجي لروسيا عام 1991 وتبني الأيديولوجية الليبرالية الغربية والنظام السياسي والاقتصادي تحت إشراف القيمين الغربيين مصالح الغرب. وعليه، يعتبر اليوم وجود روسيا، التي استردت سيادتها، حتى على الحدود الروسية خطا أحمر بالنسبة للغرب.
ويعتبر دوغين أن الهجوم المضاد الذي نفذته القوات المسلحة الأوكرانية في منطقة خاركيف ضربة مباشرة يوجهها الغرب إلى روسيا نظمت من قبل القيادة العسكرية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وتمت تحت إشرافهما المباشر، ولا تقتصر مساهمة حلف شمال الأطلسي هنا فقط على تقديم المعدات العسكرية، بل شملت مشاركة الاستخبارات الفضائية العسكرية الغربية والمرتزقة والمدربين بشكل مباشر.
ويرى الغرب، كما يقول دوغين، أن هزيمة القوات الروسية في خاركيف بداية نهاية روسيا، ويخلق هذا انطباعًا لديه بأن الفشل في الدفاع عن الأراضي الواقعة تحت السيطرة في منطقة خاركيف يعني بالضرورة إمكانية إلحاق العديد من الهزائم بروسيا.
وبحسب دوغين فإن الهزيمة التي ألحقت بالجيش في منطقة خاركيف أول نجاح لسياسة الزحف نحو الشرق التي اعتمدتها قوات الناتو، كقرًّا ويقر بإعلان الغرب الحرب ضد روسيا وشنها عليها بالفعل، رغم أنها لم تخترها ولم تريدها، مستشهدًا بمحاولة روسيا تجنب الدخول في حرب مع ألمانيا النازية عام 1941.
نهاية العملية العسكرية الخاصة
تطورت العملية العسكرية الروسية الخاصة باعتبارها عملية محدودة لتحرير دونباس وعدد من أراضي نوفوروسيا بشكل تدريجي إلى حرب شاملة مع الغرب يلعب نظام كييف الإرهابي - بحسب دوغين - الأداة فيها فقط؛ حيث إن سياسة محاولة محاصرة النظام وتحرير عدد من أراضي نوفوروسيا التي يسيطر عليها النازيون الأوكرانيون، مع الحفاظ على توازن القوى الجيوسياسي الحالي في العالم دون تغيير فشلت، والتظاهر بتحقيق روسيا مآربها وسط الاهتمام الدولي بالملف وتغطية المستجدات لحظة بلحظة من طرف وسائل الإعلام أمر لا طائل منه.
ويلفت دوغين الانتباه إلى أن روسيا اليوم في حالة حرب، والأمر ذاته ينطبق على جميع المواطنين الروس، الذين يهدد سلاح العدو حياتهم.
ويقول دوغين إنه "من الصعب إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الرابع والعشرين من شباط/فبراير من العام الجاري، ونظرا لعمل العدو على تركيع روسيا واستسلامها بالكامل واحتلالها؛ ليس لدينا اليوم خيار غير الاستمرار في هذه الحرب".
إن نهاية العملية العسكرية الروسية الخاصة يَفترِض حدوث تحولات عميقة في النظام السياسي والاجتماعي بأكمله لروسيا الحديثة واستعداد البلاد للدخول في مواجهة على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي وفي مجال المعلومات.
الجبهة الأيديولوجية
ففي ظل الوضع الراهن، وجدت روسيا نفسها تخوض حربًا أيديولوجية يدافع خلالها الغرب عن قيم مجتمع الشواذ وتقنين الانحرافات والمخدرات والاختلاط الكلي أثناء الهجرة غير الشرعية، وهي القيم التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالهيمنة العسكرية والسياسية الأمريكية ونظامها أحادي القطب.
ويؤكد الكاتب على أن الليبرالية الغربية والهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية العالمية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وجهان لعملة واحدة، وعليه؛ فإن القتال مع الغرب وقبول قيمه، التي يشن باسمها حربًا ضد روسيا، في آن واحد أمر سخيف للغاية.
ويعتقد دوغين أن الظرف الراهن يستدعي تحديد أيديولوجية ينبغي اتباعها، جوهرها الرفض القاطع والمباشر لأيديولوجية الغرب والعولمة والليبرالية الشمولية، بكل أنواعها وأدواتها، بما في ذلك النازية الجديدة والعنصرية والتطرف.
التعبئة
ويشير دوغين إلى أهمية التعبئة اليوم ولا يعني بذلك إرسال المجندين بشكل إجباري إلى الجبهة بل تشكيل حركة تطوعية تؤمِّن الدولة جميع استحقاقاتها، وذلك جنبًا إلى جنب مع المراهنة على قدامى المحاربين، وعلى دعم جنود نوفوروسيا وعلى الجهات الخارجية المؤيدة لروسيا، وعدم التردد في تشكيل كتائب دولية مناهضة للنازية ومناهضة للعولمة من دول الشرق والغرب.
ويضيف دوغين بأن عدم الاستهانة بالروس وبالشعب الروسي الذي خاض العديد من الحروب وانتصر فيها من أهم العوامل التي ينبغي المراهنة عليها؛ حيث تقوم التعبئة على تغيير سياسة المعلومات بشكل عام وإلغاء معايير زمن السلم وتسخير التلفزيون ووسائل الإعلام لتصبح أدوات وطنية للتعبئة في زمن الحرب.
الاقتصاد
ووفقا لدوغين تستطيع جميع الدول ذات السيادة طباعة القدر اللازم من العملة الوطنية، مشيرًا إلى أنه في ظروف الحرب ضد الغرب، من غير المجدي مواصلة التعامل معه وفقًا لقواعده. في هذه الحالات؛ تظهر نخبة جديدة من الاقتصاديين، هدفها إنقاذ الدولة تضطلع بالدور الأهم في حين تضطلع المدارس والأساليب والنُهج بدور لا يقل أهمية عن ذلك.
حلفاؤنا
يلعب الحلفاء، الذين لا تمتلك روسيا الكثير منهم اليوم، دورًا حاسمًا في جميع الحروب وباستطاعتهم تغيير مجرى الأحداث.
وإلى جانب روسيا؛ يقف اليوم مؤيدو التعددية القطبية مثل الصين وإيران وكوريا الشمالية وصربيا وسوريا وجمهورية أفريقيا الوسطى ومالي وإلى حد ما الهند وتركيا وعدد من الدول الإسلامية والأفريقية وأمريكا اللاتينية مثل كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا، وخلال التعامل مع الحلفاء من الضروري؛ حشد - ليس فقط - التأييد الدبلوماسي المهني بل التأييد الدبلوماسي الشعبي، ويتطلب هذا الحشد إقناع روسيا حلفاءها بانفصالها عن العولمة والهيمنة الغربية بشكل لا رجعة فيه واستعدادها للمضي قدماً في بناء عالم متعدد الأقطاب.
العامل الروحي
وكتب دوغين أن الجانب الروحي والديني هو الموضوع المحوري في المواجهة العالمية التي وجدت روسيا نفسها خلالها في حرب مع حضارة معادية للدين، تحارب الله وتفسد أسس القيم الروحية والأخلاقية. ورغم الاختلافات بين الأرثوذكسية والإسلام التقليدي واليهودية والهندوسية والبوذية، فإن جميع الأديان والثقافات المبنية عليها، تعترف بالحقيقة الإلهية وسمو الروح وقداسة الإنسان واحترام المؤسسات، كالدولة والأسرة والمجتمع، والقيم التي استبدلها الغرب الحديث بالواقع الافتراضي والنزعة الفردية المتطرفة والتعقب الشامل، وثقافة الإلغاء.
وفي الختام ينوه دوغين بأن الغرب أظهر عزمه شن حرب إبادة ضد روسيا ليعلن بذلك انطلاق الحرب العالمية الثالثة، وهو الواقع الذي يفرض استجماع جميع الإمكانات الوطنية، أي القوة العسكرية والاقتصادية والثقافية والتعبئة الداخلية لجميع هياكل الدولة.