لا اعتقد أن هناك من يستطيع أن يقفز فوق جراح اليمنيين ليمنح إيران البراءة فيما صنعته باليمن ، فما تم في بكين من اتفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران هو تصحيح وضع بين بلدين جارين كان من المؤكد أن سيأتي يوم تفرغان فيه شحنات الخصومة بأدوات دبلوماسية ، وهي أدوات لا يعول عليها كثيراً في إنهاء الخلافات ، وإنما يقتصر دورها على إدارة هذه الخلافات بصورة لا تسمح بالانزلاق إلى العنف . ويحدث في عالم اليوم والأمس وغد أن تنشأ خلافات عميقة بين بلدين أو أكثر من بلد مع بقاء العلاقات الدبلوماسية قائمة .
جميع دول المنطقة ، بل والعالم العربي ، يدركون أن إيران تدير مشروعاً توسعياً بقوة السلاح ، يقوم على تمزيق الهوية الوطنية للدولة العربية بهويات تفكيكية طائفية وعنصرية ،مستخدمة كل ما تخلف عن التردد الذي مارسته السلطات الحاكمة في إقامة دول تعتمد نظام المواطنة . وهي لن تتوقف عن تنفيذ هذا المشروع لا سيما في البلدان التي قامت فيها بتأسيس ركائز تسمح باستمراره بعد أن تم تخريب كل محاولات الإصلاح السياسي والانقلاب عليها كما حدث في اليمن .
التدخل الإيراني في اليمن بلغ أوجه في لحظة حاسمة من لحظات التحول التاريخية التي كانت على وشك أن تضع اليمن على طريق الاستقرار والبناء ، ولذلك فإن تدخلها بدعم المليشيات الحوثية ومن والاها كان أشد حقداً ونكاية باليمنيين ، فقد وجدت إيران في اليمن المكان الذي تستطيع أن تسوق فيها مشروعها بكلفة أقل وفائدة أكبر بتضخيم هذا المشروع لما يمثله اليمن من دور محوري وجيو-سياسي في المنطقة والعالم .
كانت منطقة الخليج برمتها قد عانت من تسويق هذا المشروع التوسعي الثورجي على أراضيها ، ومعه تطويق منطقة الخليج بحزام من الاضطرابات والفوضى يحركها وكلاء هذا المشروع في منطقة امتدت من البصرة على الفرات حتى دمشق مروراً ببيروت على البحر الابيض المتوسط وصولاً إلى صنعاء عند مداخل البحر الأحمر .
وكان التحالف الذي أعلن بقيادة المملكة العربية السعودية ينطلق من حقيقة أن استكمال تطويق المنطقة باسقاط صنعاء بيد ايران عمل لا يهدد الأمن القومي لهذه المنطقة فحسب وإنما كان بمثابة إعلان حرب بكل ما يحمله من دوافع وما تشده إليه من أهداف .
تحمل اليمنيون الجانب الأكبر من هذه الحرب وأدرانها وخسائرها المادية والبشرية ، ولا أحد يستطيع القول اليوم غير ذلك ، فالمعركة مع هذا المشروع لا تتوقف بالمسألة عند حدود اليمن ، لكن اليمن كانت المسرح الذي جرى من على خشبته مواجهة ايران ومشروعها التوسعي وتحمل من أجل ذلك الويلات والالام والمكابدة ، وهو بالتأكيد فخور بأنه تصدى لهذا المشروع في لحظة من لحظات اليأس حينما كانت الدولة قد انهارت ، وأصبحت كل مقدراتها بيد المليشيات الحوثية وايران .
أعادت دول الخليج علاقاتها بإيران ، وبعضها ظلت علاقاتها مع ايران سمن على عسل ، وأخرى استعانت بها في النزاع الخليجي الداخلي ووجدت ايران ذلك متنفساً لتنويع مقامات عزفها على السلام الذي تريده لها ولوكلائها ، ويبقى السؤال هل يمكن اصلاح هذه العلاقة دون تسوية للأزمة اليمنية تحقق الاستقرار وتعوض اليمنيين ما كابدوه من آلام مقابل تصديهم لهذا المشروع الطائفي التفكيكي الخطير .
لقد تعدت ايران على اليمن وعبثت به في وقت أخذ الكثير من العرب يزنون علاقتهم بايران بميزان مختلف تماماً عن ذلك الميزان الذي لطالما استخدمه اليمنيون في الوقوف إلى جانب قضايا الأمة .
إن كل ما يمكن قوله اليوم هو أن هذا المشروع فقد دينامياته الداخلية والخارجية على السواء ، وربما أدركت المملكة عبر قراءتها الخاصة أنه الأوان لالتقاط اللحظة التي تستطيع فيه اعلان انكسار هذا المشروع بأسلوبها الخاص وايران تشتعل بمشاكلها الداخلية وعزلتها الخارجية وتبعث رسالتها للعالم بأنها مركز سلام ، غير أن ذلك لن يكون مفهوماً إذا لم تتضمن هذه الرسالة ما يفيد أن محور هذا السلام هو السلام الذي يحب أن يعم اليمن .. وهو ما نثق به .