الدكتور / عبدالقادر المحوري
شهدت اليمن خلال العقد الماضي تحولات سياسية عميقة، بدءًا من انتخاب عبدربه منصور هادي رئيسًا للبلاد، ومرورًا بإطلاق الحوار الوطني الذي رسم ملامح نظام الأقاليم للقضاء على المركزية، وانتهاءً بالحرب التي عصفت بالبلاد بعد انقلاب الحوثيين. كان مشروع الأقاليم يهدف إلى توزيع السلطة بشكل عادل بين مختلف المناطق، لكنه قوبل برفض من القوى التقليدية التي رأت فيه تهديدًا لنفوذها التاريخي.
رفض الأقاليم وأبعاده السياسية
رفض القوى المهيمنة في شمال اليمن، وخصوصًا من يشار إليهم بالمركز التقليدي، لفكرة الأقاليم لم يكن فقط موقفًا سياسيًا، بل كان له أبعاد اجتماعية واقتصادية عميقة. فمن جهة، اعتُبر عبدربه منصور هادي، القادم من خارج الهضبة الشمالية، غير مرحب للحكم وفقًا للتراتبية الطبقية التي رسختها النخب التقليدية. ومن جهة أخرى، كان نظام الأقاليم سيقضي على المركزية، ويحدّ من هيمنة قوى النفوذ القبلي، ويعزز فكرة المساواة بين أبناء اليمن.
لكن الأخطر، أن نجاح مشروع الأقاليم كان سيؤدي إلى تهميش المشايخ والقبائل في صنع القرار، ويقوّض الفساد الذي استفادوا منه لعقود، وهو ما دفعهم للتحالف مع الحوثيين، رغم اختلافهم الفكري والسياسي، لمنع أي تغيير يمس مصالحهم.
تحالف المصالح: الحوثيون وصالح والمشايخ
التحالف الذي نشأ بين الحوثيين والرئيس السابق علي عبد الله صالح لم يكن مفاجئًا لمن يعرف تعقيدات المشهد اليمني. فالحوثيون، الذين يرون في أنفسهم امتدادًا للنظام الإمامي، وجدوا في صالح حليفًا مرحليًا يخدم طموحاتهم في توسيع السيطرة، بينما سعى صالح، الذي أُسقط من السلطة بثورة شعبية، إلى الانتقام من خصومه، خاصة حزب الإصلاح وأبناء تعز الذين كانوا في مقدمة الثورة ضد نظامه.
أما مشايخ القبائل، فقد انخرطوا في هذا التحالف لضمان استمرار نفوذهم، والحصول على مكاسب مادية وسياسية، بغض النظر عن مصلحة الدولة أو الشعب. وهكذا، تلاقت المصالح، وسقطت مخرجات الحوار الوطني ومسودة الدستور التي كان يُفترض أن ترسم طريقًا جديدًا لليمن.
ازدواجية المواقف تجاه الحوثيين
من اللافت أن القوى التقليدية في شمال اليمن لم تتعامل مع الحوثيين كعدو وجودي، بل كطرف أقرب إليهم من القوى الأخرى المناهضة لهم. ورغم أن الحوثي انقلب على الجميع، إلا أن هناك تردد في مواجهته مقارنة بالقوى الأخرى، مثل أبناء تعز ومارب والحديدة والبيضاء والجنوبيين.
ورغم الضربات التي يتلقاها الحوثيون، بما فيها من الولايات المتحدة، إلا أن المواجهة الحقيقية لا تزال غائبة، وهو ما يطرح تساؤلات عن مدى جدية القوى التي تملك النفوذ العسكري والمالي في استعادة الدولة، أم أنها تفضل استمرار الوضع الراهن بحثًا عن صيغة حكم جديدة لا تخرج عن دائرة الهيمنة التقليدية؟
الفرصة الضائعة والتحديات المقبلة
اليوم، الجنوب محرر، والشمال تحت سيطرة الحوثيين، فيما تملك القيادات العسكرية المنتمية للهضبة الشمالية زمام الأمور عسكريًا وسياسيًا. ومع وجود رئيس شمالي، فإن السؤال المطروح: لماذا لا تتحرك هذه القوى لاستعادة صنعاء إذا كانت جادة في ذلك؟
الحقيقة أن المشكلة ليست في نقص القوة أو الإمكانيات، بل في الإرادة. فالفرص لا تتكرر، وإذا لم تتحرك القوى المناهضة للحوثي بجدية، فإن المشهد سيظل كما هو، وستظل الصراعات تدور في دائرة مغلقة، حيث يسقط لاعب ويصعد آخر، دون تغيير حقيقي في بنية الحكم أو توزيع السلطة.
في النهاية، التحدي الأكبر الذي يواجه اليمن ليس فقط التخلص من الحوثيين، بل كسر هيمنة العقلية التي تحكمت في مصير البلاد لعقود. فبدون مشروع وطني حقيقي يتجاوز الحسابات الضيقة، سيظل اليمن يدور في دوامة من الصراعات التي لا تخدم سوى تجار الحروب وأصحاب المصالح.