دونت الحكاية/ نور با عساس
في سردية تختزن عبق الماضي وروح الشهر الفضيل، يبرز اسم العم "علي عوض جرمان" كأحد أبرز رموز مهنة المسحراتي في حي شرج المكلا، حاملًا طبلته ومتشحًا بمواويله، ذاكرة حية امتدت عبر عقود، وعاصرت ثلاثة من سلاطين الدولة القعيطية. أحبه الناس لطيبة قلبه، تعلق به الأطفال، فكان اهزوجتهم الرمضانية مع "شامية ..شامية" وغيرها مفتاحه لولوج قلوبهم البريئة، كما أنه سرق من الأباء آذان الأمهات حتى وهن نائمات ليوقظهن لاعا وجبة السحور.
للعم علي جرمان حكاية لم تروَ في وسائل الإعلام من قبل، وكأن القدر أراد أن أُحكيها لكم، على صفحات "الاتحاد نت"، فهلموا بنا لنغوص فيها. 0 بداية الرحلة في رصيف الميناء القديم "الفرصة"، وأزقة حواري المكلا، حاضرة حضرموت السلام، ترعرع ونمى المسحراتي علي عوض جرمان فيها، ومنها كانت البدايه مع النداء الرمضاني، حيث كان في عنفوان شبابه كغيره من الشباب ينقل البضائع من السفن إلى البر في حقبة تجارية نشطة لم تعد كما كانت، هناك، حيث صخب العمل وكدّ الأيادي، كانت تُشكل أولى خطوات سعيه للرزق. 0 الوصية والعهد من الأب إلى الابن جاءت نقطة التحول في مسيرته بوفاة والده، المسحراتي السابق لأحياء منطقة شرج، فحمل عوض علي جرمان المسؤولية تنفيذًا لوصية والده، ليواصل مسيرة العطاء نفسها في الأحياء ذاتها: الثورة، العمال،والنصر. لم يكن العمل غريبًا عليه، فقد كان الساعد الأيمن لوالده، وتعلم على يديه أسرار المهنة وإيقاعاتها، حتى أتقنها.
0 مع الفانوس مسيرة نصف قرن مع المرواس والطبل امتدت رحلة العم علي مع المهنة لأكثر من خمسين عامًا، عاصر خلالها السلاطين: صلاح، عوض، وغالب القعيطي. كان يبدأ جولاته الليلية في الثانية صباحًا، منطلقًا من دار "ابن غوذل" في قلب الشرج، متجهًا نحو شاطئ المكلا حيث مسجد "ورسما"، صادحًا بندائه الذي يملأ الأزقة حتى الثالثة فجرًا. ولم تكن أدواته تقتصر على الطبل والمرواس فحسب، بل كان رفيقهما أناشيد وموشحات رمضانية، يبدلها بين بداية الشهر ترحيبًا، ونهايته توديعًا.
0 الشامية: إيقاع الفرح والعطاء يتذكر ابنه عوض ايقاع "شامية.. شامية" بسعادة وكأنه يتذكرها وهو طفلًا، ويقول من أبرز الطقوس التي ارتبطت باسم الوالد - رحمه الله - طقس "الشامية"، الذي كان يطلقه في الرابع والعشرين من رمضان، بقرعات طبوله وتهليلات الأطفال من حوله، يتحول الحي إلى كرنفال فرح، يتنقل بين البيوت، محصلًا عطايا من قمح أو نقود، في مشهد جماعي يختزل روح التكافل والبهجة. 0 إرث متواصل مع تقدم السن، أوكل المهمة لأولاده في حيي الثورة والعمال، بينما أسند مهمة حي النصر للمسحراتي "منصور العبد" الذي لا يزال يؤديها حتى اليوم.
ظلت عائلة جرمان تحمل الراية حتى عام 2006م، محافظةً على هذا الإرث العائلي والاجتماعي. 0 بصمة في الذاكرة يُعد العم علي جرمان أكثر من مجرد مسحراتي؛ فهو جزء من نسيج الذاكرة الجمعية لأهل المكلا، ورابط حي بين الأجيال وتقاليد شهر رمضان.
وعلى الرغم من رحيله، بقيت أناشيده وقرعات طبله محفورة في وجدان من عاصروه، شاهدة على زمان كان فيه للمسحراتي مكانة خاصة في قلوب الناس.
