كتب/ فارس العدني
الجنوب اليوم يقف أمام لحظة فارقة تكشفت فيها حقائق لم يعد ممكناً تجاوزها أو تغطيتها بالشعارات. فالتطورات الأخيرة في حضرموت والمهرة أظهرت بوضوح أن كل القوى الشمالية، على اختلاف توجهاتها وعدائها فيما بينها، تتوحد فور ظهور أي استحقاق جنوبي. هذا التوحد لم يكن طارئاً ولا وليد اللحظة بل كشف ما كان مستوراً من تقيّة سياسية طالما أجادتها تلك القوى، وظهر جلياً في رفضها خروج قوات المنطقة العسكرية الأولى من وادي حضرموت وفي حساسية الموقف تجاه أي ترتيبات أمنية أو إدارية في المهرة، رغم أن هذه الخطوات تأتي ضمن سياق طبيعي لترتيب البيت الجنوبي.
هذه الأحداث أسقطت الخطاب التقليدي المبني على حسن النوايا وأوقفت المراهنة على إمكانية إصلاح العلاقة بين الجنوب والشمال ضمن إطار الوحدة. فكل الدلائل تقول إن المشروع الشمالي ثابت في جوهره، وإن الخلافات بين مكوناته لا تمنعهم من الالتقاء عند منع أي تمكين جنوبي. وفي المقابل ما يزال الجنوب يعاني من تعدد الرؤى والإرث التاريخي للخلافات وتدخلات قوى تسعى لإحياء الانقسامات وإضعاف القرار الجنوبي، الأمر الذي يخلق صورة مرتبكة ولا تمنح المجتمع الدولي والإقليمي الشريك الجنوبي الواضح والمستقر الذي يمكن التعامل معه.
إن ما يجري في حضرموت والمهرة ليس مجرد تحولات عابرة، بل اختبار حقيقي لقدرة الجنوب على إدارة مناطقه وفرض الاستقرار فيها. فهاتان المحافظتان تمثلان عمقًا استراتيجيًا واقتصاديًا وجغرافيًا، وأي فراغ أو انقسام فيهما يمنح الأطراف المناوئة فرصة ذهبية للعودة إلى النفوذ القديم. ولهذا فإن المصالحة الجنوبية لم تعد خيارًا سياسيًا يمكن تأجيله، بل ضرورة وجودية تتعلق بمستقبل الجنوب نفسه، فلا طرف جنوبي قادر على إدارة المرحلة بمفرده، ولا مشروع يمكن أن ينجح دون إطار جامع يوحد الموقف ويمنح العالم شريكًا موثوقًا.
إن الدرس الأهم اليوم هو أن الانقسام الجنوبي يمثل الثغرة الوحيدة التي يتم النفاذ منها، وأن وحدة الصف هي السلاح الأقوى بيد الجنوب. والمطلوب ليس توحيد كل القوى داخل كيان واحد، بل إيجاد مرجعية جنوبية تقود الرؤية العامة وتنظم الخلاف وتبني موقفًا موحدًا تجاه ملفات الأمن والثروات ومستقبل الدولة والعلاقة مع الإقليم. كما أن نجاح التجربة في حضرموت والمهرة سيكون الاختبار العملي الذي يثبت للعالم أن الجنوبيين قادرون على إدارة مناطقهم بحكمة وكفاءة.
الخلاصة التي يجب البناء عليها هي أن الجنوب يمتلك الفرصة الأنسب منذ سنوات لصياغة مشروعه الوطني، ولكن هذه الفرصة لن تبقى مفتوحة إلى الأبد. المستقبل لن يُبنى بالشعارات ولا بإقصاء بعضنا البعض، بل بالعقلانية والإدارة وتغليب المصلحة العليا. وإذا لم يخرج الجنوبيون بموقف موحد وخيار مصيري واضح فإن النتيجة ستكون مؤلمة للجميع، ولن يستفيد منها إلا من يريد إعادة الجنوب إلى مربع الوصاية والفراغ.