سنعمد في سردية الليلة إلى الوقوف قليلا في بعض المحطات التاريخية منذ فجر الثورة في ستينيات القرن المنصرم ، وسنجعل من التاريخ شاهدا لنا أو علينا ... حضرت يوم أمس في أحد المنتديات المحترمة ، وسعدت كثيرا حين وجدت في المنتدى أحد الشيوخ علما وسنا ، كان يتحدث بمصداقية مطلقة ، يسرد الأحداث بحيادية وشفافية ، ويفصلها بمعرفة دقيقة ؛ لأنه كان أحد قادة الجبهة القومية ، أعجبني حديثه كثيرا ؛ لذلك طلبت منه أن يدون ذلك في كتاب ، ينتفع به الأجيال ، لأنني لم يسبق أن سمعت من أحد قبله ، ولا أظن أن يتحقق لي ذلك بعده ؛ حديثا بهذه المصداقية والحيادية والشفافية ؛ لذلك كررت طلبي لمرات ، لكنه رفض رفضا قاطعا تحت مسوغ أنه ربما نسي بعض الشخصيات لم يشر إليها فيصبح ملوما من أقاربهم ومحبيهم ، هذا ماصرح به ، لكن مافهمته من حديثه ضمنا أننا في بيئة موبوءة وشعب متخلف ، الأمر الذي يمنع تقبل الحقيقة أوشيء منها ...
ومن هنا أستطيع أقول إن ثورة شعبنا في الستينات كانت تحصيل حاصل ؛ لأن المحتل كان قد حمل أمتعته ، وانتعل حذاءه ، وانتصب على عكازه ، ومع ذلك كان بإمكان قادة الثورة أن يقدموا نموذجا جديدا في الاقتصاد والسياسة والبناء والتنمية ، لكنهم عجزوا أن يخرجوا من قمقم الجهل والتخلف والتبعية ، وبقيت آلة القتل مسلطة على رقاب الشعب ، وخاصة على الطبقات التي كان بإمكانهم الإفادة منها ؛ كالسلاطين والمشائخ والعلماء والتجار ، وغيرهم .
وبعد أن انتهت هذه الطبقات ، عاد القادة يأمرون أنصارهم بالإقتتال حتى امتلأت شوارع حاضرة بحر العرب بجثث هذا الشعب ... وهنا تخلى الراعي ، فتاه الرعية ، وبدلا من أن يصدروا عفوا عاما للشعب بمختلف فئاته وأطيافه ، ويلتقون بإخوتهم الأعداء في محطة مراجعة للمرحلة الزمنية ، منذ رحيل المحتل إلى زمن تخلي الراعي وضياع الرعية ، ينتهي لقاؤهم بتقييم المرحلة سلبا وإيجابا ، يعقبها لملمة الشعب الجنوبي من الشتات والجوار والداخل ، والاتفاق على آلية جديدة لحكم البلاد ، مشفوعة بضوابط جديدة ، تتوافق عليها كل أطياف الشعب وفئاته ، حتى نضمن عدم العودة إلى التظالم والاقتتال ...
لكن - مع مزيد الأسف - ذهبنا وبالغباء نفسه في عجالة نبحث عن راع يحمينا ويشرع لنا التظالم والاقتتال فيما بيننا ، وعندما أدركنا أن الراعي الجديد لم ينفذ رغباتنا ، عدنا ندفع بالقطيع لمواجهة الموت من جديد ، تحت مسوغ إيهام القطيع بأن عودتنا إلى ماكنا عليه سوف تعيد سعر علبة الحليب الدانو إلى عشرين شلن ، وتعيد سعر الكيس الدقيق إلى مائة شلن ، وكانت عادة ماتنتهي تلك الدماء الشعبية المراقة بمساومة النظام على ترتيب وضع أحدنا قائدا لأحد الألوية العسكرية ، أو ملحقا عسكريا أو ثقافيا في إحدى السفارات ، وربما حصول أحدنا على مبلغ زهيد من المال بعد الوقوف المهين في طابور طويل لأسابيع أمام بوابة منزل الرجل الثاني في النظام ،
فهل هان هذا الشعب إلى هذه الدرجة على هؤلاء القوم حتى يساوموا بالفتات مقابل دمائه التى تراق يوميا منذ ستينيات القرن المنصرم ؟؟؟ واستمر الحال في الدفع بالقطيع إلى الموت حتى أصيب جسم القطيع بالضعف والهزال ، وبعد أن تعددت الأهواء ، وكثرت الشيع ، أصبحت البلاد مكشوفة للأعداء ، ومطمعا للغزاة ، أما الشعب فقد أصبح عرضة للأمراض القاتلة ، وأضحى يموت حتما لا بوسائل القتل الحديثة وحسب بل بحرمانه أيضا من الحصول على أدنى وسائل البقاء ...... نلتقي أعزائي القراء في سردية أخرى من إزهاق أرواح هذا الشعب ...