منذ الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وبعد إحباط الحوثيين مساعي الأمم المتحدة لتمديد الهدنة في الحرب اليمنية وتوسيعها، توقفت محاولات مبعوث الأمم المتحدة للتوصل إلى اتفاق لوقف الأعمال العدائية كمدخل للبحث عن فرص السلام المستدام في اليمن.
وقد تبين هذا الجمود الأممي من خلال بيان المبعوث الدولي، الثلاثاء 22 نوفمبر (تشرين الثاني)، فقد خلت مداخلته من أي محتوى جاد، وشكلت تراجعاً فاضحاً. فبعد أن أشار على استحياء في مداخلته في 13 أكتوبر الماضي في مجلس الأمن، إلى أسفه لأن "أنصار الله" جاءت بمطالب إضافية لم يكن من الممكن تلبيتها، عاد في مداخلته الأسبوع الماضي لتكرار أهمية اقتناع الطرفين بالتخلي عن الحسابات قصيرة الأمد، وكأن الطرفين معاً هما من يعرقل جهود وقف الحرب وتحقيق السلام المستدام، وليس الحوثي.
ويدرك المبعوث الدولي أن مجلس القيادة الرئاسي كان -ولا يزال- المتفاعل الإيجابي والمنفتح بجدية على مقترحات الأمم المتحدة ودول الإقليم، وأن تبني طلبات طرف في النزاع لاسترضائه للاستمرار في جهود السلام لن يؤدي إلا إلى نتائج عكسية، ولكن المبعوث، مع الأسف، لم يعد يحمل في جعبته أي أفكار أو مبادرات، وصار ينتظر مجيء الحل من الآخرين، فيما يقف مكتوف الأيدي ملهياً بالبروتوكول للإبقاء على وظيفته.
وبتقدير كثيرين من مراقبي الشأن اليمني، فإن المدخل لحل الأزمة بعد ثماني سنوات من الحرب، وبعد جهود دولية وإقليمية، وبعد تجارب المفاوضات والجهود السياسية، وبعد هدنة استمرت ستة أشهر - وما زالت تجر أذيالها - يكمن في إجماع الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن على صيغة إعلان مبادئ لوقف الحرب في اليمن، وهو إعلان ينبغي أن تتبناه الأطراف المعنية، وأن يحظى بدعم إقليمي ودولي، وسيحمل رسالة واضحة حول عزم المجتمع الدولي لإغلاق ملف حرب اليمن.
المدخل في عدم إحباط فكرة الانتقال من مربع العنف إلى مربع السلام، القائمة على إسكات لغة الاستقواء بالصواريخ والمسيرات والقصف العشوائي للبنية التحتية والتجمعات السكانية، وبعدها مباشرة تصير كل المطالب المقدمة قابلة للبحث الجاد والمشترك، ولكن التفاوض مع إبقاء البنادق مصوبة على رؤوس اليمنيين لن يكون تفاوضاً، بل إملاءات. حتى تلك المطالب ذات السقوف العالية التي يطرحها الحوثي في مختلف الملفات تظل ممكنة بعد الاحتكام إلى العقل ونبذ العنف.
فاليمن الذي تتنافس النخب على حكمه يعيش فيه ثلاثة أرباع السكان في فقر مدقع، فيما يحتاج كل ثلاثة من أربعة من السكان إلى شكل من أشكال الإغاثة الإنسانية. وقتلت الحرب التي استمرت ثماني سنوات قرابة نصف مليون نسمة، أكثر من 50 في المئة منهم بفعل المجاعة وانتشار الأمراض والأوبئة وعدم القدرة على الوصول إلى الوسائل المنقذة للحياة. وكارثة اليمن واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية بؤساً في العالم، وقد دخلت مرحلة التهميش نظراً إلى تعدد الأزمات الإنسانية في العالم.
كبح آلة الحرب
مع اقتراب نهاية العام الثامن للحرب اليمنية، وعلى رغم عدم الانهيار الكامل للهدنة التي تم التوصل إليها في أبريل (نيسان) 2022، وعلى رغم عدم تجديدها، بقيت الهدنة بشكلها الأعم والتزاماتها متماسكة، في ما يتصل بالعمليات الجوية والاعتداءات العابرة للحدود، مع انخفاض وتيرة المواجهات الداخلية، ولكنها تميزت ببداية الحرب الاقتصادية للميليشيات الحوثية ضد البنية التحتية الاقتصادية وهو مؤشر إلى فرض ابتزاز اقتصادي على الحكومة اليمنية. ومن جهة أخرى استمرار الحوثيين تحت ستار الهدنة بالتزود باللوجيستيات الآتية من إيران واللازمة للإعداد للجولة المقبلة من الحرب، وما إيقاف القوات البحرية الأميركية لواحدة من عشرات السفن الشراعية التقليدية التي تنتقل بين قواعد الحرس الثوري الإيراني في موانئ جنوب إيران عبر بحر العرب إلى موانئ التسليم شرق اليمن لنقل الأسلحة ومكونات ووقود الصواريخ والمسيرات.
وقد سبق وأشرت في مقال عن الثورة الشعبية الجارية في إيران ضد نظام الملالي إلى أن من بين أبرز أهداف النظام لحرف انتباه الرأي العام العالمي لما يجري من ثورة شعبية عارمة في مختلف المدن الإيرانية، يتركز في تحريض اتباع إيران مثل الحوثيين على القيام بعمليات تصعيدية وتخريبية للملاحة الدولية في منطقة جنوب البحر الأحمر. كل هذه السيناريوهات ترشح نحو انجراف الوضع تدريجاً إلى حرب شاملة.
الإمساك بخيوط الأزمة
ويكرر الحوثي بشكل يومي في خطابة التسويقي الواهم أنه المنتصر في هذه الحرب، وعدم وجود شريك وطني للتحاور معه في ما يتصل بمستقبل التسوية، وأنه سيتفاوض مع السعودية لحسم مستقبل الأزمة اليمنية، باعتبار وهم يتملكه بأنه ممثل للسيادة. وفي واقع الحال، كانت السعودية وما زالت ممسكة بزمام المبادرة في الأزمة اليمنية وخيوطها المتشابكة، وهي تسعى جادة لإنقاذ اليمن بكل مكوناته من الانجراف في اتجاه مواجهات مفتوحة قادمة. وتستخدم في سبيل ذلك ثقلها ومكانتها الإقليمية والدولية في البحث عن مقاربات متعددة للحل في اليمن.
وتقف السعودية على مسافة واحدة من الأطراف كلها لحل الأزمة، وقدمت منذ اليوم الأول لنشوب الأزمة دعماً غير محدود للجهود السياسية للأمين العام للأمم المتحدة، ودعمت مبعوثيه إلى اليمن، وقدمت إسهامات استثنائية لمصلحة خطط الاستجابة الإنسانية للأمم المتحدة لمصلحة الشعب اليمني كله من دون تفريق بين أبناء الوطن الواحد، سواء المستقرون في مناطق سيطرة الحوثيين أو في مناطق مجلس القيادة الرئاسي.
وطورت السعودية اتصالات مباشرة مع الحوثيين وقياداتهم في صنعاء، وليس عبر مكتبهم للاتصال الخارجي في مسقط، وتعاطت بإيجابية مع طروحاتهم العقلانية لتحفيز ما يمكن أن تحمله دواخلهم من نزعات عروبية للبحث عن مخارج توافقية للأزمة بما يضمن مصالح الجميع وانطلاقاً من مبدأ لا ضرر ولا ضرار. وذهبت الرياض بعيداً نحو التواصل مع النظام الإيراني للبحث في إمكانية حل الأزمة اليمنية، وما زالت تطرق الأبواب خدمة لأشقائها في اليمن.
وواصلت السعودية وبالقدر نفسه من الجدية توحيد صفوف القوى الوطنية اليمنية، وتعزيز فكرة العيش المشترك التي تشظت بعد الانقلاب الحوثي على التوافق الوطني، وأبدت استعدادها الكامل للوقوف مع جهود اليمنيين لإعادة الإعمار والتعافي وإشراك اليمن في ورشة التقدم الحضاري التي تشهدها المنطقة بفعل قوة الدفع السعودية للقطب الإقليمي. وينتظر المنطقة وشعوبها خير عميم، واليمن على وجه التحديد وهي تخرج من حرب دمرت كل مقدراتها.
ومع إقرار المراقبين بأن جهود السعودية المتواصلة لتعزيز الوحدة الداخلية في اليمن، تواجه تحديات متعددة نظراً إلى طبيعة القوى السياسية المنضوية في مشروع استعادة الدولة، والتي شهدت خلال سنوات الحرب الثمانية مزيداً من التشظي، جاءت قرارات مؤتمر "الرياض 2" لتترجم مشهداً معقداً لتجميع شتات أطراف مختلفة كان الصراع الداخلي هو هاجسها. من هنا، لم يستقر وضع مجلس القيادة الرئاسي خلال الفترة الماضية لأنه قام على فكرة القيادة الجماعية التي لم تنجح في أي مكان في العالم. ولهذا، فإن مراجعة وظائف المجلس وتركيز المسؤولية في شخص الرئيس ونائبه مع توزيع بقية الأعضاء في وظائف يمكن قياس نجاعة أدائها، ما قد يشكل مدخلاً للحل.
وكنت في مقالات سابقة قد عبرت عن القلق من غياب الوظيفية في أداء مجلس القيادة الرئاسي وتحوله إلى عبء ليس بمقدوره التخفيف من معاناة الشعب اليمني، بل عبر عن الخشية من أننا سنبقى دائماً نحتفي بمجرد قدرة المجلس على البقاء باعتباره أكبر الإنجازات. وهنا، يغيب عن الجميع أن المهمة المركزية التي خرج بها مؤتمر "الرياض 2" تلخصت في سطرين، فشل الخيار العسكري، فمن جانب فشل الجيش الوطني في إنجاز المهمة عسكرياً، فيما فشل الحوثي في فرض إرادته وبقي مسيطراً على الرقعة الجغرافية نفسها، بالتالي فإن الجهود ينبغي أن تنصب باتجاه السلام.
ومع مرور كل يوم ينبغي أن نسأل أنفسنا ما الذي حققناه لنيل السلام المأمول وتفويت الفرصة على أمراء الحرب والبحث عن المخارج الإبداعية لإعادة اللحمة الوطنية وتسيد فكرة العيش المشترك.