يصعب على المرء ان ينفك دون أوجاع عن منهل فكري وإنساني مفعم بالعطاء والسخاء يستزاد منه في مسيرته الحياتيه وتفسير مكنوناتها الملتبسة..، كما يصعب فقدان حائط الاتكاء عند الملمات..، دون ان يشعر بالتوهان الذي ينزاح بقسوة إلى ذاته.
انه الانزياح الأكثر إيلاما في الحياة..، انه الموت والفراق الأبدي لأستاذي وسندي والضوء الكاشف لتبيان معالم طريقي، "الدكتور صالح علي باصرة".
أراد "صالح باصرة" ان تكون مغادرته لنا هادئه غير دراماتيكية رغم مايحيط بنا من أنواء في زمن متوحش وعاصف بالمأسي والخذلان لكل الاحلام والأمال المؤودة.
غادرنا "صالح باصرة"، بعد ان صرح لنا بإتجاه بوصلة المعرفة للحقيقة والرؤية لواقعنا (...)، بعد ان تعثرت كل المسارات وتعطلت كل الخيارات.
جاءت وفاته بقضاء الله، ولكنها جاءت أيضا كتعبير إنساني احتجاجي عن رفض البقاء في هكذا حياة فوضوية وواقع عابس الملامح والآفق متماهي بالعبثية.
"صالح باصرة"، ظاهرة إنسانية فكرية متفردة في حياتنا، حمل مشاعل النور ليضيىء لكل الناس، وتمنطق بمعول العلم والإنسانية محاولا تهشيم جبال العفن العقلي..، آمن برسالته وتوفى وهو مابرح يبشر بها، ولكن أسطرها لم يكمل الكثيرون منا قراءتها حتى الآن..، فقد كان ركام التعفن الذي يواجهه مهولا..، وعندما حاول المتنازعون انتزاعه لهذا أو ذاك الطرف..، أتخذ موقفا صلبا ثابتا..، موقفا صعبا لايتخذه إلا من تزهد بمغريات المناصب والمسؤولية ومكاسبها..، موقف لايتخذه إلا الحكماء الكبار والقارئين بعمق للتاريخ وعبره..، رفض الارتماء في عباءة هذا أو ذاك فهو أكبر من ذلك بل وأكبر من كليهما..، فأنحاز لما هو أعظم..، لإنسان الأرض الطاهرة وللتاريخ وقيمه النقية.
الإنسان، والسمو الإنساني بمعناه الأخلاقي..، هو المفردة الغائرة التي تفصح عن نفسها عند "صالح باصرة" في كل أقواله وسلوكه وسكناته واناته..، كان محبا سموحا، متصالحا مع نفسه، صادقا بحديثه، أمينا بعلمه، مخلصا لوطنه، عاشقا لهويته، معطاءا للجميع دون استثناء.
لقد شكلت وفاة "صالح باصرة" الإنسان والحكيم والأستاذ والعالم..، في هذا الوقت أقسى الدروس التي تلقيناها في حياتنا..، فكم نحن باحتياجه الآن ليواصل إرشادنا الى الطريق الذي سنسلكه اليوم أو في قادم الأيام، بعد ان تكاثرت وتشابكت وتعرجت المسالك أمامنا وتشابهت بلونها الأسود القاتم.
ولكن عزاءنا رغم مغادرتك لنا هو انك أريتنا البوصلة وعلينا نحن ان نبصر اتجاهها الصحيح لنسير فيه دون تعثر.
وداعا أستاذي "د.صالح باصرة"، وأسكنك الله فسيح جناته برحمته وغفرانه، إنا لله وإنا إليه راجعون..، ولانامت أعين الجهلاء.