كثير من القادة عبر التاريخ يبدأون نضالهم لتحقيق فكرة محورية ذات أهداف سياسية واجتماعية ومعرفية، منطلقين مما توفره لهم ملكاتهم الذهنية والفكرية من قدرات. وقد يكون الحماس للفكرة عاملاً حاسماً في صياغة الجانب المعنوي الملازم لهذا النضال. والحماس سيف ذو حدين؛ وأخطر حد فيه هو التعصب.
ولذلك فإن الداعي لأي فكرة يجب أن يحصن نفسه من التعصب، لأن التعصب لا يوفر شروط البحث والمحاججة والمجادلة للدفاع عن فكرته وإثرائها. كما أن التعصب لا يمكنه من قراءة غيره قراءة موضوعية، فيحول فكرته إلى فكرة صدامية.
على منشئ الفكرة أن لا يسلمها لأدوات غاشمة بهدف حمايتها، لأن هذه الأدوات ستسحق أول ما تسحق في طريقها منتسبي الفكرة ذاتها من أصحاب الرأي.
تقول كثير من التجارب إنه بمرور الوقت، وتوسع النشاط، وتنوع الأتباع، وتعاظم الوسائل والأدوات فإن الأهداف تكبر وتأخذ في الاتساع، وتنضم إلى الفكرة عقول تسهم بخيارات وآراء لم تخطر على بال المؤسس، وتدريجياً يجد هذا المؤسس أن فكرته قد تضخمت وأصبح هو نفسه صغيراً أمامها، ولمزيد من تصغيره يتم تسويق الضرورات الحاسمة لحماية منظومة الفكرة من أعدائها بالسلاح.. وتتحول هذه الضرورات إلى قوة مادية قاهرة، وحراس أشداء، يسحقون كل من يتطاول عليهم، لا على الفكرة، من داخل منظومة الفكرة نفسها.
وبذلك تصبح الفكرة تحت رقابة صارمة وغاشمة من قبل حراسها، ويكون منتسبوها من أصحاب الرأي في مقدمة الضحايا.
ويجد القائد المؤسس نفسه غريباً، بل ومهمشاً، وغير قادر على مقاومة الجموح الذي يغري "حماة" الفكرة بإعادة بنائها بمقاييس ومعايير تتجاوز موضوعها القديم.
ولتجاوز هذا المأزق، تحول بعض هؤلاء القادة إلى طغاة وقتلة، وداسوا على الفكرة بأحذية الحراسات التي خلقوها لحماية الفكرة ذاتها.
التاريخ السياسي مليء بهذه التجارب التي يعاد إنتاجها بأشكال مختلفة دون أي اعتبار لما يقدمه هذا التاريخ من عبر.
وكان أول من حرك مسار التاريخ في هذا المنحى هي الفاشية التي أسست المخزون الأيديولوجي الذي ظل يرفد هذا النوع من الأفكار بأهم عنصرين لمثل هذا الانحراف؛ وهما:
التعصب، وحماية "الفكرة" بالسلاح والإرهاب.