إذا كانت العقوبات التي يفرضها ترامب على روسيا والصين وتركيا وكندا والاتحاد الاوروبي والمكسيك واليابان وغيرها لم تكن الا لحماية الامن القومي الامريكي كما يقول ، فإن هذه الدول وغيرها لها أمن قومي أيضا .
يعتقد ترامب أن استراتيجية العقوبات ورفع الرسوم هي التي ستحمي الولايات المتحدة وتحقق شعاره : " أمريكا أولا " بغض النظر عن الانتقادات التي تكال ضده حتى من قبل أعضاء في الحزب الجمهوري ، ولكن الحقيقة أيضا هي أن حقل الانتخابات النصفية في نوفمبر القادم له بريقه وألقه الذي يسعى الرئيس لحصده بعدة مناجل أحدها منجل العقوبات ، وإن بذرائع شتى : إذ كانت بالنسبة للصين وزميلاتها فرق الميزان التجاري والقرصنة وخلافها ، بينما كانت بالنسبة لتركيا القس اندرو برانسون المتهم بالإرهاب والتجسس .
المعلومات التي سربتها مصادر امريكية تقول : ان المحادثات بشأن القس المذكور قطعت اشواطا كبيرة قبل اسابيع من الإنتكاسة في العلاقة بين الطرفين ، ولكن ووفق هذه المصادر ، فإن ترامب لم يرد أن يتم الافراج عن القس الا بمكاسب انتخابية مؤكدة على اعتبار أن الإنتخابات التشريعة ليست وشيكة فأراد أن يكون الأمر ساخنا في نوفمبر القادم ليتسنى له الحصول على أصوات إضافية من قواعده المتطرفة مستندا إلى قضية هذا القس الذي هو أحد غلاة المحافظين المتهودين ، ومن أجل ذلك ولكي يعطل الصفقة أعلن بأن العقوبات على تركيا لن ترفع حتى لو تم الإفراج عن القس المذكور مما كشف بأن قضية القس ليست سوى شماعة استغلها الرئيس لتحقيق مكاسب أخرى لا يبدو حتى الآن أن أنقرة مستعدة لتقديمها .
من أجل ذلك فإن الأزمة مرشحة للتصاعد ، وبالفعل أعلن الجمعة في واشنطن عن حزمة اجراءات جديدة ستتخذ قريبا ضد أنقرة ، وفي المقابل أعلنت تركيا أنها مستعدة للرد ، بعد انحدار سريع في سعر الليرة التركية التي فقدت 40 بالمئة من قيمتها .
وإذا تعمقنا اقتصاديا أكثر ، فإن المراقب يجد بأن الضغوط على ترامب بدأت تتصاعد داخليا بسبب المنتجات التركية التي رفع تعرفتها وبسبب الملف الزراعي ، وبخصوص الزراعة فإنه خصص 12 مليار دولار لدعم هذا القطاع الذي عانى بسبب اجراءات الصين الاخيرة عقب ردها على العقوبات حيث ركز الصينيون على الغرب الأوسط الذي يعتمد في اقتصاده على التجارة معهم ، ويقول الواقع بأن التبرم من سياسات ترامب لم تقتصر على هذه القطاعات فقط بل امتدت إلى شركات أخرى وخاصة قطاع السيارات ، حيث تقول المعطيات بأن أزمة ترامب مع العالم وأصدقائه وحلفائه تسببت بتقليص ساعات العمل لآلاف العمال الأمريكيين في بعض الشركات والمصانع في الولايات الصناعية ، وأمام ذلك قدم ترامب تنازلات بخصوص السيارات الأوروبية التي كان يريد فرض رسوم عليها بقيمة 254 مليار دولار ، ووقع التراجع بعد زيارة مسؤول اوروبي له في البيت الأبيض ، وأيضا بعد رفض شركات السيارات الأمريكية فرض هذه الرسوم لأنها ستؤثر سلبا على ما عرف بـ " الطفرة " في صناعة السيارات عقب كساد شهده هذا القطاع قبيل فوز ترامب بالرئاسة ،وقد تواترت المعلومات عن خسارة احدى شركات السيارات الامريكية الكبرى مئات الملايين من الدولارات ما أدى ألى إلغاء هذه الرسوم حتى الآن ما لم يجد جديد .
الأتراك - من جهتهم - باتوا يتخبطون في سياسات مالية ونقدية اتخذت قراراتها على عجل ، وإذا فرضت عقوبات اضافية كما توعد ترامب فإن الاقتصاد التركي سيعاني أكثر وسيكون هناك ضغوط أضافية على الليرة ، إذ ليس بإمكان أنقرة مقارعة الولايات المتحدة اقتصاديا إذا اخذنا بالأعتبار الفرق بين 17 تريليون دولار هي حجم الناتج القومي للولايات المتحدة مقابل تريليون دولار لتركيا التي يعتبر اقتصادها اقتصادا ناشئا قياسا بالعملاق الأمريكي ( موازنة أمريكا السنوية العام الفائت 2017 - 2018 بلغت 4 تريليون دولار ) ..
وبخصوص سياسة العقوبات بشكل عام ، فإن أيا من الذين فرض عليهم ترامب عقوبات لم يقدم أي تراجع ، فلا كوريا الشمالية تراجعت ، ولا ايران ولا الصين ولا كندا ولا روسيا ، بل ها هم الأوروبيون يوقعون اتفاقيات تجارة حرة مع دول لم تكن في الحسبان ، وإذا كان ترامب - من جهته - تراجع عن رسوم السيارات الاوروبية فإنه ليس هناك من أي مؤشرات على أنه سيتراجع بخصوص الصين التي يبلغ حجم التجارة معها 500 مليار سنويا ( الصين ردت بعقوبات بقيمة 12 مليارا ضد ولايات تشكل قواعد ترامب الانتخابية فيها أغلبية ) وليس هناك أي مؤشرات أيضا على أنه سيتراجع بخصوص ايران أو تركيا وغيرها ، مما قد يخلق محاور آنية في مواجهة الولايات المتحدة بدأنا نراها من خلال الروس والصينيين والإيرانيين والأتراك الذين استخدمت العقوبات ضد بعضهم كسلاح سياسي.
وبخصوص الأتراك الذين هم محور وكالات الأنباء هذا الأوان ، فقد تكون تداعيات العقوبات عليهم أبعد من تركيا وواشنطن نفسيهما ، ولكن حاجة الأتراك لامريكا وبالعكس هي حاجة " ضرورة " على أكثر من صعيد ، ومن غير المحتمل أن تنعكس التجاذبات بين البلدين على وضعية تركيا في الناتو أو الشراكة بينهما في ما يتعلق بالأمن أو سوريا أو بعض ملفات المنطقة والعالم في المديين المنظور والمتوسط .
ترامب أحرق سفنه بشأن القس ، وسلطان اسطنبول المغرور اتكأ على القضاء ، وقد نشهد مزيدا من التشنج والتشنج المضاد ضمن حدود اللعب المسموح به بين حلفاء تقليديين ، وهذه الأزمة رسمت بالتأكيد خط العلاقة المستقبلية بين الطرفين ، وهو خط لن يعود منسابا أبدا كسابق عهده حتى لو بقي الضرب من فوق الحزام ، ولكن ماذا سيكون عليه المشهد لو تحولت اللكمات إلى المناطق المحرمة !.