مفارقات في طقوس الشهر الكريم ...

   أما الليلة فسوف أتحدث مع جدتي صفية لعلها تجود بشيء من درر القول أو رحيق الحكم ، كيف حالك ياجدتي ؟ بخير يابني ، لكن ما الذي جاء بك في هذه الليلة المباركة ، ونحن على عتبة الشهر  الكريم ؟ مهلا ياجدتي ، فأنا لا أريد إلا أن أسمع منك شيئا عن الضيف القادم الذي ألمحت إليه في سؤالك . تعني شهر رمضان يابني ؟ أجل هو ذاك ياجدتي . اسمع يابني : إن رمضان كان في أيامنا شهرا عظيما ومباركا بما تعنيه الكلمة ، كنا ننتظره نصف عام ونودعه النصف الآخر . ولماذا كل هذا الاحتفاء به ياجدتي ؟ إنه شهر مبارك يابني ، فيه نخلص العبادات ونضاعف من الطاعات ، فيه نكثر من الصدقات ونطعم الفقراء وذوي الحاجات ، فيه ترق أفئدة الأشحاء والبخلاء فتجدهم ينافسون سخاء وجودا  الكرماء . نضيء ليله بالأعمال الصالحات ، ونعمل في نهاره كباقي الشهور والأيام  ، تسمع في ليله - من كل حي - الأهازيج وترنيم الموشحات  ، ترى الأنوار والإضاءات ، وموائد الأطعمة والمكرمات ، تسمع أصوات القوم تصدح بأناشيد الفرح والابتهاج والترحيب بمقدمه لخمس عشرة ليلة منه ، ثم تسمع القوم ينحدرون بأناشيدهم في إيقاعات حزينة تعبر عن توديعهم وبكائهم في النصف الأخير منه ... أما اليوم يابني ، فأنت ترى كيف تغير الزمان ، ورحل الأنس عن ليالي رمضان ، وغادر البلاد الأمن والأمان ، رحلت من قلوب القوم الرحمة ، وانتزعت عنهم البركة . لم يعودوا فيما بينهم يتراحمون ، ولا من الرحمن يختشون ، يتسابقون على فتات الدنيا ، وكأنهم لم يعودوا بالآخرة يؤمنون ، يريدون فوق نصيبهم من العاجلة ، وكأن ليس لهم خلاق من الآجلة . الأمر الذي جعل الله يسلط عليهم الأعداء ، بل ويبتليهم بالخوف والجوع والأمراض ونقص الثمرات ، أصبحوا لايزرعون ولايصنعون ، ولا عن أرضهم وعرضهم يدافعون . أما رمضان المبارك فيستقبل بالأوبئة الفتاكة والأمراض القاتلة ، فضلا عن ارتفاع الأسعار ، وانعدام المشتقات ، الليل فيه مظلم ، والنهار خال من العمل معدم ، لا أحد - تقريبا - يعلم أن رمضان شهر ، ليله طاعة وعبادات ، ونهاره فتح وانتصارات ... كفى ياجدتي فقد أدميت قلبي وأبكيت عيني .....