من أرشيف الذاكرة مع جدتي صفية

   اختط الشط عاصمة لمديرية المضاربة ورأس العارة ؛ لتوسطها الجغرافي أولا ، ثم لأن سكانها من السادة ، الأمر الذي يمنع أية قبيلة من الاستئثار بموقع القيادة ، والتأثير على مركز القرار والإرادة . ومن ذاك ياجدتي ؟    إنه العبد المنتصر الذي قام بعد ذلك ببناء محكمة ، ومسجد جامع ، وإدارة للأمن ، ثم دعا مشائخ القبائل ووجهاء القوم إلى الشط ، وخطب فيهم خطبة عصماء ، قال فيها : أيها المشائخ والوجهاء ، لقد جئتكم مصلحا ، ابتغي إقامة العدل بينكم ما استطعت إلى ذلك سبيلا ، فكونوا عونا لي ، لإصلاح أنفسكم ، وبناء مجتمعكم . أيها القوم لقد أقسمت على نفسي أن أجعل الشاة ترعى مع الذئب - ويقصد بذلك إنهاء الثارات - فلن أسمح لقاتل أن يفلت من العدالة بعد اليوم . أيها القوم لقد شيدت هذه المحكمة ؛ لتكون قبلة المتخاصمين ، وفض نزاع المتنازعين ، والانتصار للمستضعفين ، وهذه إدارة الأمن ، لضبط المخالفين ، وترويض المتمردين . القانون سبيلنا ، والعدالة مقصدنا ، والحق بغيتنا ، والجهل عدونا ، والعلم سبيلنا . يا أبناء قبائل الصبيحة ، اعبدوا ربكم ، وحافظوا على صلواتكم ، وافلحوا أرضكم ، وازرعوا طعامكم ، وارعوا ماشيتكم ، فلا مكان للتشاحن والبغضاء بعد يومنا هذا  .     وهل حقا كان الرجل كذلك ياجدتي ؟ أجل يابني ، كان الرجل قويا حازما ، لكنه في الوقت نفسه مستقيما عادلا ، يخاف الله في سره وعلانيته ، استطاع تحقيق العدل ، واستئصال ثقافة الثأر ، التي كانت قد تجذرت في المجتمع الصبيحي ، في أربعينات وخمسينات القرن المنصرم ، إذ لم تشهد منطقة الصبيحة شيئا من العدل والمساواة بين كبارها وصغارها ، لاسيما في التاريخ المعاصر ، إلا في حقبة العبد المنتصر .    لكن كيف استطاع العبد المنتصر تحقيق كل هذا ياجدتي ؟ لقد كان يابني قائدا محنكا ، يشرف على المحكمة بنفسه ، وينظر في أحكام القضاة ، ويؤم القوم في الصلاة ، ويتابع أداء رجال الأمن ، كان يفرض على الذين لايؤدون الصلاة ، جزية من أموالهم  يدفعونها شهريا ، و يعاقب المزارع إذا لم يصلح قنوات الري الخاصة بأرضه ، كان إذا ارتكب جريمة قتل أحد أفراد القبيلة ، ولم يسلم نفسه ، أخذ شيخ القبيلة أو أحد أبنائه ، ووضعه في السجن ، حتى تسلم القبيلة القاتل ، ألم يقل فيه الشاعر الشعبي الصبيحي الشيخ علي محمد العطري : الجيب يعبر والمنصري ماهل ** يااهل السياسة تخبروا ماله لاقدر الله وراح ابو مرشد ** إللي بلا قوة يكشفوا حاله      انظر يابني ، وكأن الشاعر أراد  أن  يقول : إذا حصل مكروه للقائد المنصري ( العبد المنتصر ) لاسمح الله ، من للمستضعفين من بعده ؟      لكن ياجدتي ، ألم يأت حكم عادل ورشيد بعد العبد المنتصر ؟  كلا يابني. ماجاء بعد حقبة العبد المنتصر ، إلا  قتل التجار والعلماء ، والتنكيل بالأحرار والشرفاء ، والتفريط في الدين ، والتخلي عن الهوية ، فضلا عن نشر ثقافة التآمر بين أوساط المجتمع ، وتعليمهم كيف يكتبون التقارير ضد بعضهم . شكرا لك ياجدتي ، سيظل يحذونا الأمل بأن يكون هناك عهد جديد وحكم رشيد  ...

9 رمضان 1443 للهجرة الموافق 10 ابريل 2022م