انصار الله وقد انفصلوا عن "جمهورية الوحدة" وعن الجمهورية العربية اليمنية وانفصلوا عن محيطهم العربي... فانهم لا يرون في ذلك أمراً يستحق المراجعة بل يسمونه نصرهم المؤزر بارادة السماء وبركات السيد ومساندة "أشقائهم الاوفياء".
وصنعاء وقد منحتهم أرضاً ومؤسسات دولة واقتصاد ومحافظات تابعة (إلا قليل)، فإنها لا تضع فعل أنصار الله خارج سياقاتها التاريخية. بل تراه، بعيون حكامها الجدد، استعادة لدورها المستقل ودولتها القديمة (الأصلية) بصورتها المعاصرة.. وأن انفصالها عن نصف قرن ونيف من الزمن السبتمبري ليس طارئ مؤقت أو نتاج غفلة تلبث وتزول بل انتظرت قدومه بصمت عاماً بعد عام حتى أتى وتكلم أنصار الله بلسانها، فأخرجت من أجلهم مليونيات غير مسبوقة ورفدت جبهاتهم بأعداد لا مثيل لها في التاريخ.
لقد مهدت صنعاء الطريق لقدوم أنصار الله عبر مراحل بفطرتها و دون أن تخطط لذلك. فأفرغت كل شيء من محتواه: لا جمهورية تجمهرت ونهضت بشعبها وتُركت تأخذ سبيلها.. ولا جنوبيون وحدويون أمنوا فيها على الشراكة وعلى العهد والاتفاق وعلى حياتهم.. ولا ديمقراطية أنتجت أفقاً.. ولا أوليجارشيات تنازلت من أجل الشعب بجزء من مصالحها.. ولا شيوخ قبيلة تخلوا عن كبرهم وعدلوا عن تعاملهم مع بلد اعتبروه ملكية خاصة.. ولا أحزاب ضحت بشيء من ايديولوجيتها وولاءاتها لمصلحة الشعب! وهكذا ذهب البلد على طريق التمهيد التدريجي بانتظار شرط أخير لاستقبال الفاتحين الجدد حتى حققه ربيع "دوّار الجامعة" وتباشير خرافة الإخوان وجماهيرهم المخدوعة. فانشقت الأطواد لعبور القادمين وفتحت صنعاء أسوارها وتبخرت جيوشها واحزابها ونخبها، وصمتت الساحات لتتهيأ لدور جديد تنسج من أجله راياتها الخضراء.
القبائل لا تواجه الحاكم بأمر الله أو بأمر الولاية أو بأمر الدولة الهشة حين يأتي منها وكذلك صنعاء لا تقاوم من أخذ كرسي الحكم من محيطها مهما كانت وسيلته وشعائره وشعاراته، كما أن الجزء الأكبر من محافظات الأطراف والوسط والسهول في الشمال تتعامل في نهاية المطاف مع الأمر الواقع رغم وجود فئات تقاوم إلا أن السائد هو بقاء الواقع واستمراره مثلما تفرضه الهضبة بمحتوياتها المختلفة. ذلك تاريخ وليست وصفة اعلامية.
هذا الأمر الواقع في صنعاء ليس مؤقت وليس انتقالي ولا يأخذ أي من هذه المسميات المسكّنة فهم يعلنون بأنهم "استعادوا الدولة والحرية والكرامة واستقلال القرار" ولن يفرطوا بذرة واحدة مما أنجزوه أي أنهم سيسعون لاستكمال الاستيلاء على ما تبقى من مناطق ظلت لقرون طويلة تابعة لمركزها المقدس ثم يتوجهون جنوباً ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
لقد أسست صنعاء واقعاً صلباً لا يساوم.. لا يهادن، يعترف به العالم ويعتبره هو الأساس الثابت ومركز الثقل في الازمة اليمنية الذي سيأتي إليه (الآخرون) مباشرة أو عبر وسطاء للبحث عن تسويات داخلية وصفقات من أجل توفير ضمانات لأمن الجيران.
فهل الجنوب مجرد جزء من أولئك (الآخرين)؟
هناك بالتأكيد جدل وتخوفات كبيرة وهناك حاجة إلى مراجعات لتعزيز موقف الجنوب ومسار قضيته وكيف يصبح طرفا قوياً في الازمة وليس جزءاً من (آخرين) يسعون لتحقيق هدف مختلف. تلك مسألة محورية على القيادات الجنوبية مقاربتها بطريقة موضوعية واتخاذ خطوات عملية. وليس ثمة ما هو أهم من التهيئة والإعداد للإدارة الذاتية لأسباب كثيرة، وبدونها لا شيء يمكن البناء عليه جنوباً. أما "الشرعية" وقد استنفدت زمانها وتجربتها لم تعد سوى رمزية سياسية وليست سلطة على الجنوب تحكمه وتديره بما يخدم أهداف الأحزاب الشمالية التي تختلف بشكل جوهري مع توجهات الجنوب وطموحاته. عدا ذلك فإن الجنوب سيبقى ملعب للجميع تُصدّر إليه الفوضى والأزمات والإرهاب وسيذهب في أحسن الأحوال بعد استنزافه ودون إرادته إلى تسويات وفق رؤى وإرادات خارجية.
احمد عبد اللاه