الانتحار والسادية.. من مراقبة تديّن العباد إلى شؤون الله

يغني الحديث النبوي "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" عن أي كلام ينهى عن التلصص على خلق الله، ومراقبة جودة تديّنهم ومنسوب علاقتهم بالله، ثم الحكم على مصائرهم في الآخرة وفقا لما يتيحه الفضول الشخصي من مؤشرات “إسلامية”.

هذا اللون من الفضول الديني ثمرة التردي الأخلاقي، وقلما يوجد في مجتمعات تجاوزت مفهوم القطيع والعشيرة، واكتسب فيها الإنسان قداسة فردية تصون خصوصياته، ولا تعطي حقا لمؤسسة أو أفراد في سؤاله عن دينه ومذهبه، أو تناقشه في تقاعسه عن أداء إحدى الشعائر.

ويمتد هذا الرقيّ الأخلاقي إلى كافة شؤون الفرد ما لم يمس حريات الآخرين وحقوقهم. ومن الطبيعي أن ينتقل الفضول من مراقبة العباد إلى الافتئات على الله، وإصدار أحكام جحيمية باسمه، كأنهم "يقسمون رحمة ربك"، ويختصون بها أنفسهم، بدليل العاصفة التالية لقول أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر أحمد كريمة إن المنتحر ليس كافرا. تصريح لا يضر أحدا، ولكنه أيقظ المفتي الكامن في النفوس السادية، فسارعت إلى الدفع بالمنتحر وصاحب الاجتهاد إلى جهنم، بعد أيام من عيد الأضحى.

ليس تصريح الدكتور أحمد كريمة مفاجئا، وكنت قد انتقدت لغطا أثير في يونيو 2001 بعد موت الممثلة المصرية سعاد حسني، حول انتحارها أو إسقاطها من شرفة شقتها في لندن، بأساليب تقترب من انتهاك حرمة الموتى.

ونشرتُ في مجلة "سطور" آنذاك مقالا ختمته بما أورده جمال البنا في كتابه "ما بعد الإخوان المسلمين؟"، حيث انتحر أحد المهاجرين من مكة إلى المدينة، تحت تأثير اكتئاب حاد بسبب مغادرة وطنه "مكة": "انظر هذا الحديث في صحيح مسلم “كتاب الإيمان” الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر، وهو يروي قصة أحد المهاجرين قطع أحد شرايين يده فنزف دمه حتى مات، ثم رآه أحد أصحابه في المنام فقال ما صنع ربك، فقال غفر لي بهجرتي إلى نبيه، ونقلت الرواية للرسول فدعا له. والحديث يخالف المأثور عن خلود المنتحر في النار. وهناك تعتيم فقهي على هذا الحديث". في ذلك الوقت، لامني البعض على ذلك، وكأنني أشجع على الانتحار الذي لم يمنعه تأكيد الكثيرين على كفر المنتحر.

والاثنين الماضي 27 أغسطس 2018، قال الشيخ كريمة في برنامج تلفزيوني إن المنتحر يرتكب جريمة منكرة، فاعلها فاسق وآثم وليس بكافر، ولا يخرج من الملة بإجماع الأئمة الأربعة، وإن جزاء المنتحر حسب المشيئة الإلهية، وربه أرحم به من نفسه. وذكر تفاصيل الواقعة التي سجلها جمال البنا، وبطلها الطفيل بن عمرو ومهاجر آخر جزع لمرضه بعد الهجرة، فقتل نفسه بقطعه شرايينه، ورآه الطفيل في المنام، فسأله: ما صنع الله بك؟ قال الرجل: "غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم". فسأله لماذا يغطي يده؟ فقال الرجل: "لأن الله قال لا نصلح لك ما أفسدت". وروى الطفيل هذه القصة للنبي، فدعا له وقال: "غفر الله ما صنعت بيديك".

دعوة النبي للمنتحر بالمغفرة لم تحبب الانتحار لمسلم. هذا سلوك يفسره أهل العلم من اختصاصيي الطب النفسي، ولا يستهدف المنتحر الإساءة إلى دينه، ولكن أوهام الخوف على الدين من هذا السلوك الفردي شجعت الكثيرين على المزيد من الهراء، فانتقل فضولهم إلى النطق باسم الله، وتقرير مستقر العباد في الآخرة.

وتكفي تعليقات المئات من المتدينين على مصير المنتحر للإصابة بالفزع من عمق حفرة لا تردمها حماسة التكفير، فلا ترتبط عندهم الغيرة على ما يتصورونه في الدين بشيء من أدب الحوار، والتزام حد أدنى من التعفف عن البذاءة، وهم أقرب إلى لص يحمل مسبحة ويعثر على مفطر في نهار رمضان فيطارده، ويشبعه سبا وضربا غيرة على الصيام.

وهنا أكتفي بالقليل من تعليقات شغلت الفضاء الإلكتروني، وأكتفي بالتالي من سباب الرجل أو الأزهر، فهذا أحمد يتساءل ساخرا: "دي فتوى ولا كلام مساطيل في قعدة مزاج (ضحكة). دي كأنها دعوة عامة للانتحار". ويكتب عراقي "ابن كريمة يشجع الشعب المصري على الانتحار بدلا من مواجهة الطغيان والاستبداد". ومن تركيا يهتف عبدالله: "أيها الشعب المقهور في مصر والعراق وسوريا وغيرها انتحروا فالحمار هاد كفيل لكم يوم القيامة (ضحكتان)". ومن المغرب يوجه عبدالقادر تحذيرا إلى الشيخ: "عليك من الله ما تستحق. الانتحار كفر بوجود الله وسوء الظن بالله فهو أعظم من الشرك بالله". ومن ليبيا تنادي امرأة: "يا كريمة.. الواضح لا تعرف معنى الكافر.. ولكن كفار قريش يفهمون في الإسلام أحسن منك".

ما الذي يضير مسلما إذا غفر الله لمنتحر؟ لا أقول لقاتل أو مختلس أو سارق للمال العام أو معتد على الطريق العمومي؛ فهذه جرائم لا تغتفر ما لم ترد الحقوق إلى أصحابها، أما المنتحر فأخطأ في حق الله ولم يسئ إلى أحد، ولكن القانطين يبخلون برحمة الله على من يستحق الشفقة وربه أعلم بحاله، كما يستكثرون الجنة على غير المسلم، ويجادلون ببعض الكتاب ويتجاهلون آيات ترجئ الحكم على الناس إلى يوم القيامة.

كف الخطباء في مصر عن لعن اليهود والنصارى في ختام خطبة الجمعة، ولكن لديهم يقينا بأن غير المسلم محروم من رحمة الله، ولو تدبروا القرآن لوجدوا آياته أكثر رحابة، "ورحمتي وسعت كل شيء"، ولنا أن نتدبر حكمة الله في آية "لكل جعلنا شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة"، وهذا نص على أن لغير المسلمين "شرعة ومنهاجا".

ومن أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث إلى غيرها، يقول في سورة البقرة "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون". ولمن لا يعتدّ ببشرى تنفي الخوف والحزن تأتي آية سورة الحج أكثر شمولا "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة، إن الله على كل شيء شهيد".

بتمام الشفاء من مرض السادية وكراهية البشر، ينشغل المتنطعون بأنفسهم، ويبدأ إيمانهم بالغيب، فيتركون الخلق للخالق، ويحسنون الظن بالله، ويكفون عن الاستعلاء بالإسلام على الناس، وتسوؤهم فكرة عذاب المنتحر، فلا يهنأ ذو قلب بجنة إذا سيق مسكين بائس إلى الجحيم.

 

سعد القرش

 

الأكثر زيارة