يجب الحذر في التعامل مع شبكات التواصل الاجتماعي، فالقصص التي سبّبت الندم أكثر من أن تحصى
في عامي الأول على «فيسبوك»، أي قبل نحو سبع سنوات، وصلني طلب صداقة من سّيدة أطلقت على نفسها «الدكتورة شيماء»، تبدو في صورتها جميله.
بعد حوالي أسبوع على صداقتنا،أرسلت لي عبر الخاص: «تحياتي ومحبتي أستاذ، لماذا لا تعقّب على منشوراتي؟ هل من سبب؟!
فوجئت باهتمامها بي، فلا مشكلة بتعليق بسيط يبدي مجاملة لها، ورفعتها لتصبح من أصدقائي المفضلين، أتابع منشوراتها وأعلّق عليها، وعندما أتأخر، ترسل لي عبر الخاص «أين تعقيبك؟» مع رمز قلب صغير يشي بالمودة.
في يوم ما كتبت لي: أرجو أن تُعدَّ لي منشورًا كي أنشره باسمي، لأنني منشغلة بهذا الحيوان!
-الحيوان؟!
-نعم الحيوان..
-ومن هو الحيوان؟
-سأخبرك فيما بعد بتفاصيل أكثرعما فعله معي، سوف أرفع قضية ضده، وحياتك، أكتب لي منشورًا عن التحرش الجنسي!
-وهل ستنزليه باسمك؟
-طبعًا باسمي، أم أنك لا تريد مساعدتي؟!
-بل سأساعدك، انتظري عشر دقائق.
-حسنًا، إياك أن تتأخر.
أرسلتُ لها ما معناه «بأن المتحرش هو من تغلبت عليه حيوانيته، فصار لها عبدًا»، نشرَت ذلك وحظيت على عشرات الإعجابات والتعليقات.
في اليوم التالي، طلبت مني منشورًا آخر،لأنها «مشغولة بالحيوان» كما قالت!
فأرسلتُ لها «سيّدتي، طفلك يحتاج إلى حنانك، اتركي الهاتف وقبليه الآن، قبلتك لطفلك اليوم حصانة للمجتمع من عنف الغد».
نشرَتْه، وبعد ساعتين تجاوزعدد الإعجابات الثلاثمئة.
شكرتني، ثم طلبت مني أمرًاغريبًا:
«هناك شيخ متبحِّرٌ في الدين علّق عندي، أنا لا أفهم بالدين كي أرد عليه، أرسل لي رسالة على الخاص ردًاعليه، وأنا سأنشرها باسمي».
-حسنًا يا عزيزتي، ولكن لم تقولي لي من هو الحيوان؟
-أنا داخلة الآن إلى قاعة المحاضرات، الطلاب ينتظرونني، نتحدث فيما بعد.
رأيت تعقيب شيخ ذي عمامة، وقد دعم أفكاره بآيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة.
اجتهدت في الرد عليه. ثم أرسلت لها، فنشرت الرد، وراح يرُدّ عليها، فراحت تطلب مني تعقيبًا ردًا عليه.
طلباتها تزايدت، تأخذ أفكاري وتنشرها باسمها، ثم تطالبني بتعقيبات على أفكاري، وعلى تعقيبات أصدقائها.
في يوم ما، انتبهت لتعقيب باسم شخص مثابر على منشــــوراتها، وما لبِثتْ أن أنزلتْ التعقيب نفسه ولكن باسمها! وفهمت أن هــــناك رجلاً آخر مثلي «يشتغل» عندها في المنشورات والتعقيـــبات، وهو محامٍ! وتكرر الأمر مع غيره، وبدا لي واضحًا بأنها أنشأت وحدة من النشطاء، يدرجون المنشورات والتعقيبات باسمها، ويناقشون بعضهم بعضًا من خلالها.
وبلا شك في أنها توزّع القلوب وعبارات الإعجاب والمحبة على الجميع، الذين يتنافسون للفوز بها، كيف لا وهي دكتورة رائعة الجمال، وتعيش ضائقة مع حيوان قد يكون زوجها أو مدير عملها!
أحيانًا ترتقي بلغة محترفة متينة بدون أخطاء، وتحمل أفكارًا وتحليلات عميقة، وفي أحيان أخرى تهبط إلى دون المستوى الأدنى.
خلال هذا، وبين حين وآخر، كانت تُنزل منشورات خاصة مثل صورة لطفل جميل: «كل عام وأنت بألف خير يا ماما، اليوم عيد ابني حبيبي»، لتنهال التبريكات بالمئات، وصارت تتجاوز الألف إعجاب بسهولة، بينما لا يتجاوز عدد ما يجمعه مستشاروها من إعجابات بضع عشرات في أحسن الأحوال.
لا يمضي شهر حتى تنشر تهنئة ثقيلة مثل «إلى شقيقي الغالي (نصري) بمناسبة نجاحك في امتحان التخصص في جراحة الأعصاب بامتياز»، أو «إلى الدكتور حاتم زوج شقيقتي منى، الحمد لله على نجاح البحث العلمي الكبير الذي حققته في جماعة كولومبيا»، «إلى الشقيقة الحبيبة أم مراد بمناسبة اجتيازها امتحان الدولة في علم الجريمة». ولا يلبث أن يرد عليها أشقاؤها وشقيقاتها والأنسباء بتعابير الحب والمودة والتقدير.
استغربت ملامح صور أقربائها، معظمها ليست عربية، وعندما استفسرت، قالت لي «نحنا هيك شكلنا شُقر وعيون زُرق » . ، هل تشك بصدقي أنت الآخر؟ لا تقاهرني، أنت تعرف أنني أعزك دون الجميع…يكفيني بلائي بهذا الحيوان».
-لم تقولي لي بعد من هو الحيوان؟
-ألم تعرفه بعد؟
-لا..
-حسبتك ذكيًا، وبالتأكيد تعرفه..
-أشك فيه، لكن أريد تأكيدًا منك.
-وحياتك، يكفيني الجحيم الذي أنا فيه، هذه أسرار.
-لعنة الله على من يعذب حسناء ورقيقة مثلك.
-تسلم يا غالي..
في الحقيقة، إنها نجحت في إثارة فضولي، من هو الحيوان؟! بعثتُ برسالة داخلية إلى المحامي النشط على صفحتها، سألته إذا كان يعرف الدكتورة شيماء بالفعل، وهل هو متأكد من شخصيتها؟
كان هذا المحامي يدافع عن منشوراتها بشراسة، وكأنما يغار عليها، وفوجئتُ برد منه يقول فيه: انتبه يا أستاذ، أنا لن أسمح حتى للهواء بأن يقترب من الدكتورة شيماء.
أيقنت أنه على علاقة حميمية بها، وأن هناك أمرًاً مشتركًا بينهما.
ولم تمض ساعة حتى نشرتْ على صفحتها «اليوم صباحًا وصلت إلى مكتب صديقي المحامي (…) وشربنا القهوة، كان اللقاء ممتعًا جدًا!
وكتب هو تعقيبًا: «أجمل الصباحات عندما نلتقي مع من نحب».
لا أنكر أنني شعرت بالغيرة، وقرّرت وقف إرسال المنشور اليومي المعتاد، فأرسلتْ تعاتبني: «لا تكن غبيًّا، أنا لا يهمني أحد غيرك، لقائي بالمحامي كان لرفع القضية التي تعرفها ضد الحيوان.
قلت بغضب: من هو الحيوان وما هي قضيّته؟
-أليس لديك صبر لتعرف؟
-أريد أن أعرف الآن، وإلا سأقطع العلاقة..
-لا حاجة لأن تعرف من هو الحيوان وما يفعله، فقد يؤلمك الأمر.
-إذا لم تقولي من هو وما فعله، فسوف أنهي العلاقة الآن.
-هل أنت مُصِرٌ؟
-نعم، إما أن تقولي من هو وما هي القضية وإلا سأحذفك من صداقتي.
-»طيّب حبيبي، اكتب رقم هاتفك، وسوف أتحدّث معك بعد المحاضرة».
كتبت رقم هاتفي بسرعة، وانتظرت بشوق ولهفة، ورحت أفكر عن أي محاضرة تتحدث، وأين؟!
مضت ساعة بتثاقل شديد ورنّ هاتفي، فظهر على الشاشة رقم غريب، خفق قلبي وأسرعت للرد.
-هالو..
حينئذ وصلني صوت رجل غليظ مُخيّبًا أملي.
-كيف أنت يا أستاذ؟
-جيّد، كيف أنت؟
-ألم تعرفني؟!
-لا، حقيقة لا
-معك الحيوان…
ذهلت للحظات ثم استجمعت تركيزي وقلت: أها فهمت، لماذا كنت تكذب؟ ما الهدف من هذه التمثيليات؟
-من قال إنني أكذب؟ أنا حيوان بالفعل، خذ هذه الحيوانة تريد أن تحدّثك.
وحينئذ جاء صوت امرأة، إلا أنه يبعد مسافات صوتية شاسعة عن الأنوثة: «معك الدكتورة شيماء».
-عفوًا، حضرتك دكتورة في أي موضوع؟.
-آه صحيح، دكتورة حيوانات. وانفجر كلاهما بقهقهات، بينما هي تصيح: حيوان..حيوان..ابعد عني يا حيوان…أتركني يا حيوان، ثم ينفجران معًا بقهقهات مجلجلة…
الحيوان … وأنا
الأكثر زيارة