شعور بضيق التنفس نابع من خوف رهيب، أو إحساس بالقيء، وربما حب العزلة والابتعاد عن الجنس الآخر، معظمها مشاعر مختلطة ومتشابهة تقع فيها غالبية ضحايا التحرش للمرة الأولى، فأول مرة تحرش هي أول مرة عنف جنسي ونفسي يقع على الفتاة، سواء كان في مرحلة الطفولة أو الشباب.
كيف ومتى حدث ذلك، وهل تملك الضحايا جرأة الاعتراف بتلك الوقائع؟... «لها» تسجل اعترافات مثيرة وصادمة لفتيات عن أول مرة تعرضن فيها للتحرش.
أتألم كلما تذكرت
أول حادث تحرش جنسي تعرضت له هيا أحمد، 22 عاماً، موظفة خدمة عملاء، كان عمرها 15 عاماً أثناء توجهها إلى درس اللغة الألمانية، تقول: «حينها كنت في الصف الأول الثانوي، ونزلت من منزلي الساعة التاسعة صباحاً متوجهة إلى درس اللغة الألمانية، ما زلت أتذكر حتى الآن البلوزة الصفراء التي كنت أرتديها وبنطالي «البنتكور» البني، كان الشارع تقريباً خالياً من البشر، وفجأة وجدت رجلاً يمر بجانبي بسرعة ليلمس مؤخرتي ويضغط عليها، فأخذت أصرخ بصوت عالٍ لعل أحداً ينجدني حينها شعرت بضيق تنفس كاد يخنقني، كأنني بمفردي في الكون كله، وكأن الجبال تتطابق على ضلوعي، فكان صراخي استنجاداً من ذلك الشعور المؤذي».
وتتابع: «التفت شخص آخر إلى صراخي كأنه كان مراقباً للحادث من بعيد، وشتم المتحرش ومضى في طريقه كأن شيئاً لم يكن، سرعان ما لملمت كتبي التي تبعثرت على الأرض وتوجهت إلى الدرس، ولم أحكِ شيئاً لأحد ولم تكن لديَّ رغبة في الحكي، لكني لم أفهم حينها ما إذا كان هذا الشخص ساعدني عندما شتم المتحرش؟ ولماذا لم يمسك به ويضربه لأنه تسبب لي في أذى؟ لكن عندما كبرت فهمت جيداً أن الشتيمة لا تساعد الناجية من التحرش، ولا تقلل من الأعراض النفسية التي تواجهها بمفردها».
تؤكد هيا أنها تتألم كلما تذكرت تلك الواقعة، وأنها لم تشعر بالتعافي منها حتى الآن، وتقول: «ما زلت أخشى التحرش وأخشى تواجد الرجال في الشوارع أو المواصلات العامة، فقدت تعرضت أخيراً لحادث تحرش تحوّل إلى عنف جسدي، وما حدث أن أحد الرجال تحرش بي لفظياً فنهرته بقوة وصوت عالٍ، فما كان منه إلا أن صفعني على وجهي، وعلى رغم ذلك ما زلت على قناعة بأن المتحرش جبان، لكن وقع التحرش أقوى وأشرس نفسياً على النساء، فأنا أصنفه إرهاباً جنسياً. وبعد الحادث الأخير ظللت فترة طويلة لا أقوى على محادثة العملاء الرجال هاتفياً، رغم أنه صميم عملي، فقد أصبحت أرى كل الرجال متحرشين إلى أن يثبت العكس.
حملة إلكترونية
مجموعة من ناشطات مواقع التواصل الاجتماعي المهتمات بحقوق المرأة في مصر، أطلقت أخيراً حملة إلكترونية سلاحها هاشتاغ بعنوان «#أول_مرة_تحرش_كان_عمري»، وهدف من خلالها الى تسليط الضوء على العوار المجتمعي الحاصل بسبب تفشّي ظاهرة التحرش الجنسي.
سالي مشالي، صحافية، قررت المشاركة في الحملة الإلكترونية بصفتها الشخصية، وتقول عن دافع مشاركتها: «شاركت في تفعيل الهاشتاغ، لأن القصص التي حكيت كانت صادمة للكثيرين، حملت كمّاً ضخماً من تحرشات المحارم لا سيما الأطفال، وهذه حجة قوية لمن يحمّلون الفتاة مسؤولية التحرش بسبب ملابسها أو تواجدها في الشارع. الأمر الأكثر أهمية هو أن الحملات الإلكترونية أصبحت أسلوباً فعالاً في مواجهة القضايا، وأصبح الهاشتاغ سلاحاً قوياً وجريئاً. فضلاً عن ذلك، فإن تلك الحكايات لن تظل حبيسة الفضاء الإلكتروني، بل ستنتقل إلى الواقع على لسان من قرأها في سياق أحاديث مختلفة عن التحرش».
وتتابع: «من أهم الدروس المستفادة من ذلك الهاشتاغ، أن الأطفال هم الفئة الأكثر تعرضاً للتحرش الجنسي، ويتعرضون لتحرشات متكررة لا يمكنهم البوح لأحد بها بسبب الخوف من الجاني أو الأهل. ومن هذا المنطلق شاركت بقصتي الشخصية في الحملة الإلكترونية، وأول مرة تم التحرش بي كان عمري ثماني سنوات. تعرضت لتحرشات متكررة على أيدي زملائي الذكور، منهم من كانوا يدخلون مراحيض الفتيات، ومنهم من كانوا يتحرشون عند صنبور الماء وفي أتوبيس المدرسة أثناء الذهاب أو العودة. لم أكن أعلم حينها أن هذا تحرش، ولا ما كان يجب عليَّ فعله، لكني كنت أشعر بأنه انتهاك لجسدي، فما كان رد فعلي إلا خوفي المزمن من زملائي جميعاً، وتجنب التواجد مع الذكور في مكان واحد. فأصبحت أشعر بأنني مستهدفة دائماً من أي ذكر تسنح له الفرصة في أي وقت. وفي مرحلة المراهقة، كنت حريصة على ارتداء ملابس أكبر من مقاسي بنمرتين، كأنني أختبئ داخلها وأداري جسمي الذي يريدون أن ينهشوه».
في نهاية حديثها، تؤكد سالي أنها لم تتعاف حتى الآن من وقائع التحرش الجنسي، وأنها ما زالت تخاف بالرهبة نفسها من حدوثه في أي وقت.
مدرس متحرش
رغم كون هادية عبدالفتاح، ناشطة لحقوق المرأة، في أواخر العشرينات من عمرها، إلا أنها لا تنسى إطلاقاً تحرش مدرّس اللغة الإنكليزية بتلميذات الصف الخامس الابتدائي.
وتحكي قصتها قائلة: «كان عمري عشر سنوات، حين كنت طالبة في الصف الخامس الابتدائي، كنت أخاف جداً من حصة اللغة الإنكليزية، حيث أن المدرس يتحرش بأجساد الفتيات الصغيرات، خصوصاً ذوات البشرة البيضاء. يضع يده على جميع أنحاء أجسادهن، وعندما كن يجاوبن إجابة صحيحة كان يقبلهنّ بطريقة شهوانية ما زلت أتذكرها حتى الآن، لذا كنت أكره اللغة الإنكليزية، وأختبئ في آخر الصف كي لا يراني، ولم أكن أجاوب بإجابة صحيحة خوفاً من أن يلمسني بحجة التشجيع. وكان طوق نجاتي بشرتي السمراء، وكانت كارثتي الكبرى عندما أخبرت أمي واستغثت بها فلم تبال، واتهمتني بالجنون، إلا أن إحدى قريباتنا شكت لأمها من تحرش ذلك المدرس فقدمت فيه بلاغاً في المدرسة ووزارة التربية والتعليم وتم نقله من المدرسة. حينها فقط صدقتني أمي لكن بعد فوات الأوان، بعد تدمير جهازي العصبي يومياً خشية أن يضع يده على جسدي وينهشه بلمساته، وبعد أن كرهت اللغة الإنكليزية وأصبحت لا أتقنها، مهما ذاكرت بسبب العقدة النفسية».
تؤكد هادية أنها لم تتعافَ من مشاهدتها لتحرش الطفولة وخوفها منه، ما أثر فيها سلباً في مرحلة الشباب، حيث أنها لم تكن تحسن التصرف عند التحرش بها، وتقول: «كان يلزمني الذهول والصمت مع كل حادث تحرش جنسي في الشارع أو المواصلات العامة، حتى تطوعت في فترة ما في حملة مناهضة التحرش الجنسي، وقتها كنت أقابل فتيات يؤكدن خوفهن من السير في الشارع، ويأملن بأن يوجد أحد يحميهن، حينها شعرت بكم الضعف وقررت ألا أخاف من المتحرشين مرة أخرى، وأن أساعد الفتيات في التغلب على مخاوفهن حتى نستطيع مواجهة التحرش.
شوارع غير آمنة
مروة فتحي، 31 عاماً، موظفة تسويق تؤكد أنها لا تتذكر أول مرة تحرش بها أحد، وأن الحديث عن التحرش الجنسي بمثابة اجترار لألم نفسي بالغ الأسى.
وتضيف: «الحملات الإلكترونية لا تشكل وعياً مجتمعياً إلا على نطاق نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، الذين لديهم من الذكاء والمعرفة والثقافة قدر كافٍ لتمييز السلوكيات الاجتماعية المؤذية، لكن سائق المواصلات العامة أو سائق التاكسي، الذي يتحرش بالنساء، لن يستخدم مواقع التواصل الاجتماعي، ولن يبالي بتلك الحملات إذا كان مستخدماً لها».
وتتابع مروة: «قد يكون السبب في كوني لا أتذكر أول مرة تحرش، أن التحرشات يومية في الشوارع المصرية، التي أصبحت غير آمنة على النساء، فهؤلاء يتعرضن بشكل يومي للتحرش الجنسي بأشكاله كافة، اللفظية والجسدية، لذا أرى أن الحل يكمن في تفعيل القانون وتواجد أكبر للشرطة في الشارع، بحيث يسهل على الفتاة الإمساك بالمتحرش وتسليمه للشرطة، حينها فقط ستنتهي مأساة ملايين النساء في مصر أو على الأقل لن يكون التحرش ظاهرة اجتماعية.
تأهيل الضحايا
من الجانب النفسي، يفسر الدكتور محمد المهدي، أستاذ الطب النفسي في جامعة الأزهر، السبب في أن تكون أول مرة تحرش في مرحلة الطفولة، وهو أن الأطفال فئة بشرية ضعيفة لا تستطيع الدفاع عن نفسها، فضلاً عن هيمنة الجاني على الضحية إذا كان في محيط المدرسة أو الأسرة.
ويقول: «إن التحرش الجنسي في تزايد مستمر، وهو مصطلح جديد على الوطن العربي، ساعد على انتشاره الخطاب الديني المتشدد، الذي صوّر جسد المرأة على أنه مدنّس وأنه أداة للغواية، فيتوق إليه الرجال متخذين ملابس المرأة ساتراً مبرراً لفعلتهم».
يضيف أستاذ الطب النفسي أن ضيق التنفس والخوف والتوتر والبكاء المستمر، الذي قد يصل إلى حد الاكتئاب والميل إلى الوحدة، من الأعراض النفسية التي تتعرض لها ضحية التحرش، لذا يجب على الأهل أن يمدوا جسور التواصل والصراحة مع أبنائهم، لأن المصارحة تؤدي دائماً إلى وقف الاعتداء الجنسي على الضحية، خصوصاً في مرحلة الطفولة، لافتا إلى أن الدعم الأسري إحدى ركائز العلاج، إضافة إلى ضرورة التوجه إلى طبيب متخصص، وإذا كان الجاني في إطار الأقارب يجب عزله عن الضحية على الفور، لتسهيل عملية التأهيل النفسي والشفاء.
التلامس
أما الدكتورة هبة قطب، استشاري الطب الجنسي، فتؤكد أن ملامسة الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة، أو مرحلة التعليم الأساسي، لا تندرج دائماً تحت مسمى تحرش جنسي، فالأطفال يعتقدون أنهم يلهون معاً، وعلى الأهل مراقبتهم وفتح سقف الحوار، وإذا تلقت أم الولد شكوى من أم الفتاة، عليها أن تفهمه أنها مثل أخته، وأن الرجال يحمون النساء، وعليها أن تؤكد على مسامعه أن التلامس الجسدي مرفوض بين الرجال وبعضهم أو النساء وبعضهم أو كلا الجنسين، فهذا ما يطلق عليه التربية الجنسية منذ الطفولة، وهي المسؤولة عن إنشاء طفل سوي أو متحرش. فالطفل عادة ما يقلّد أباه في معاكسة الفتيات والتحرشات اللفظية التي ينشأ عليها منذ صغره.
وتتابع: «يقع على عاتق الأم التربية الجنسية لطفلها منذ الولادة، حيث يمكنها أن تعلمه أنه لا ينبغي أن يغير له أحد حفاضه سواها، حتى لا يرى أحد أعضاءه، وهذا يبرمج عقل الطفل منذ الولادة على ذلك، بخاصة أن الطفل ببلوغ عمر الستة أشهر يستطيع تمييز صوت أمه إن كان غاضباً أم لا، وبناء عليه يكون الطفل قادراً على تنفيذ تعليمات أمه بعدم اقتراب أحد من مناطقه الجنسية في عمر دخوله الحضانة، أي عام ونصف العام، ومع كبر عمر الطفل على الأم أن توعيه بضرورة عدم التلامس، أو السماح للغرباء بملامسة جسده، وأن تطلب منه أن يخبرها إذا حدث أي شيء من هذا القبيل، لأن المتحرشين يستغلون خوف الأطفال من أهلهم أو عدم وعيهم».
دعابات مؤذية
أما هديل أحمد، 23 عاماً، فتؤكد أن هناك نوعاً من التحرش لا يلتفت إليه الأهل، وقد يعتبرونه دعابة، وتقول: «بدأ التحرش بجسدي الصغير عندما كان عمري خمس سنوات، حيث أن جدّي كان أول المتحرشين بي في قالب مداعبة صغيرة، فكان يمد يده على صدري في مزاح متعارف عليه لدى ذوي الأصول الريفية، ليقول لي إنني أوشكت أن أكبر وأحمل ملامح أنثوية، لكن ما لم يكن يعرفه والدي أن ذلك التصرف كان يؤذيني، وكنت أرفض مصافحة جدي أو اللعب معه خوفاً من تحرشه بجسدي».
وتتابع: «في تلك المرحلة، والتي كنت أبلغ فيها خمس سنوات فقط، كان ابن عمتي عمره 20 عاماً، وكان يجلب لي الحلوى باستمرار، لكنه كان يستغل ذلك في مقابل أن يتحرش بي، ولو على سبيل الدعابة أيضاً وقت غياب الكبار من الأقارب، لم أدرك حينها أن ذلك أحد أنواع التحرش، إلا عندما كبرت، وعندما أخبرت أمي نهرتني بدافع الخوف من الفضيحة».