قصة قصيرة
1. كان يخطط لكتابة ما ، عندما دخلت عليه حنان ، وأمطرته بأسئلتها الصاخبة وإشعاعاتها التي تنهمر في قلبه مطرًا وموسيقى انسحب إلى الداخل .
وفتح صنبور أشواقه.كان كلما رأى حنان، وهو يراها كل يوم، يحتسي أنخاب البهجة، ويغرق في صخب الإغواء، ويسيح في مدن الغفران.
بالنسبة إليه هي لاتشبه أية امرأة. لا يستطيع أن يحدد وجوه اختلافها، لكنه يستطيع أن يزعم أنها تحتويه بين ذراعيها كما لم تفعل كل نساء العالم .
لذراعيها نكهة متفردة، ولجسدها شميم خاص يغمره برائحة ضوء باذخة..جسد لانهائي..وفير..وسخي. كان يخطط لكتابة ما، حينما باغتته حنان بجسد يتحدد رواؤه كل لحظة ..وحنان..هي مدخل افتتانه بالعالم .
2. لم يعد يتذكر كيف التقيا، ومتى. ولم يعد مهمًّا أن يتذكر كيف التقيا ...ومتى. مايتذكره هو أنهما في أول لقاء دخلا في نقاش حار حول العلاقة التي يمكن أن تنشأ بين رجل وامرأة في زمن مرعب وخصي.. كيف يمكن أن يكون شكل هذه العلاقة ..هل هي نفسها التي يمكن أن تنشأ في الزمن النظيف الخالي من الاتساخات والانهيارات..تسأله عن ما يمكن أن تشكله هذه العلاقة من ميراث للعشاق .سؤالها أربك شاشة وعيه .ولما لم يجد إجابة ناجعة قبّلها بين عينيها بكل المحبة التي يمكنها . .
3. ثمة طيور خضراء، وموج يتدفق في المدن الصاخبة. ثمة أيائل ووعول تتقافز في الذاكرة ، وتمرح. وثمة البحر يدندن بأغنية راعشة، والعالم يرقص عند شواطئه الفسيحة .. انهمارات مجنونة من الفرح والقبل والأحلام الناهضة السوية.صخب رائع يندلق من سهوب الطفولة إلى سطوح المدن الكابية. وحنان تتدفق موجة كبيرة ..تغني بأعلى صوتها ..وتضحك بكل الطفولة المسموح بها.
4. كان يخطط لكتابة ما ، عندما رأى ـ في ما يشبه الرعب ـ أن ثمة عراءً هائلا ينتشر في الحقب المقبلة ..وأن ثمة اندحاراتٍ متواليةً تُحيق بقلبه الصغير الحالم .. رأى كأن أزمنة ليست محايدة تتراكض في فضاءات المشهد ، وتملأ قلبه بالجراثيم والغصات المتلاحقة ..ورأى أنه كان معلقا بأنشوطة تهتز يمنة ويسرة فتجرح عنقه. لم يكن أحد يمسك بالأنشوطة ، لكنها كانت تشتد على عنقه ، وتشتد ، حتى إذا ما أحكمت تطويق العنق انفتحت وحدها ..ثم عادت ثانية لتطوقه.. ثمة انهيارات ..وثمة جسد يتأرجح في أنشوطة معلقة في قصاء رخو...هلامي..والجسد يستغيث ويصرخ بكل القوة التي يمكن أن يختزنها فم مفتوح ..يتوقف ما يشبه الموت ..وينهض الجسد المرتجف من الرعب ، باحثا عن دفقات حنان وشمس طرية.
5. كان يخطط لكتابة ما، عندما تاريخ آخر كان يمتد في المدينة الكابية، وينشر الغرابة في المرايا الأولى ..هذا التاريخ المباغت بعثر أيامه فراح يبحث عن مفتاح لأقفال الكآبة التي كسرت أمنياته.كانت المدينة تتوسد أحلامها حينما تكاثرت الكمائن ، وراح الناس يتراكضون في كل الاتجاهات، من كل الاتجاهات، إلى كل الاتجاهات، من دون أن يعلموا ما يمكن فعله في مشاريع الحروب المقبلة. بقي في مكانه يحلل ويدرس. لكن شظية من بقايا حرب مقبلة أكلت عينيه وأذنيه وفمه، وتركته في الهباء يقود عماءه إلى حفرة فتحتها إحدى الراجمات في إحدى الحروب المقبلة.
6. كان يخطط لكتابة ما، حينما باغته جسد أنشوطي فاره ، ذو " أجراس ونيازك وقطارات خارجة عن مسارها " .جسد ريتسوسي. بهيج يترك وشومه في قُبّان الذاكرة .ويرش القلب بنعاس كحولي شاهق وطري.
7. كان يخلع رداءه عندما تدحرجت جثته في ظلام الغرفة الحالك.كان يبحث عن زر الإضاءة فإذا أصابعه يأكلها جدار رمادي أخرس كان يترصده في الظلمة، ولم ينتبه إلى جثته وهي تتدحرج إلا عندما أراد أن ينام . .
8. كان يخطط لنوم صغير يرتاح فيه بعد كل هذه الحروب البائتة والطرية. وعندما نام لم يصحُ. ثانية . من قصيدة لليوناني يانيس ريتسوس يصف فيها جسدا : " أريد أن أصف جسدكِ. جسدكِ لانهائي .جسدك تاج وردة نحيفة، في قدح ماء صافٍ . جسدك غابة متوحشة مع أربعين حطابا أسود . جسدك ليلتان وأبراج أجراس .نيازك وقطارات خارجة عن مسارها