اختار لي والداي اسماً من قصيدةٍ عربيةٍ تنازع عليها الشعراء، ونُسِبَت إلى الوأواء الدمشقي. كان ذلك في مدينة القدس، وبعد أن فَقدا بحسرةٍ شديدةٍ وليداً قبلي، بعد أن تزوج والدي الطبيب أُمّي المعلمة وأيقونة الجمال التي تطوّعت في سلك التمريض إثر حروبٍ داميةٍ في فلسطين. أعدّا لميلادي رداءً أبيض خَطّ والدي عليه حروف اسمي، وطرّزته أُمي بخيطٍ من حريرٍ بالخط الإنجليزي المُشَبَّك الجميل، فكأنّهما أرادا لي أن أعيش العالم من وُجهتَيْه: المحلية والأكثر اتساعاً.
وهذا ما حدث، فقد ترعرعتُ في كنف الأدب العربي بالطريقة ذاتها التي انتميتُ فيها إلى الأدب العالمي الواسع.
لم أعرف كيف تعلمت القراءة قبل أن أدخل الصف المدرسي الأول، فكثيراً ما صاحبتُ والدتي مديرة المدرسة إلى عملها، ودخلتُ صفوفاً شتى وراءها، لكنّ ما أذكره أنّ أبي اكتشف، صدفةً، أنني أستطيع قراءة كلمات العناوين الكبيرة في الجريدة، وأنه اعتبر هذا مقدمةً كي يبدأ قراءة قصة النملة والصرصار المغني الذي كان يرهقني مصيره الحزين كلما استدرج أبي الحكاية من كتابها مراراً وتكراراً. صار أيضاً يعتني بأن يعرض عليّ صوراً للديناصورات والمناطيد الهوائية.
وهكذا تأسَّس تقليدٌ جديدٌ في البيت، يتمثل في إضرابي عن تناول طعام الغداء، لأنني كنت أكره الأكل فعلاً إلا مقابل سماع قصة. فإن حدث وكانت «الحَجَّات»، أي العجائز الراويات في الدار، أُكمل طعامي على وقع قصصهنّ، وإن لم يكُنَّ عندنا حينها كان عقابُ أُمي واضحاً لا سبيل لتغييره، وهو أنْ أظلَّ جالسةً ومعاقَبةً بعدم ترك المائدة إن لم أُكمل تناول ما في صحني. كان ما يزعجني، حقاً هو البقاء ضجرةً على الكرسي ساعتين أو ثلاث ساعاتٍ أحياناً، لكني كنتُ أحتمل هذا العذاب بصبرٍ ولو استغرق ساعات، إلى أن يعود أبي مُتأخراً من عيادته، فيبدأ رواية الأقاصيص والحكايات الصغيرة، وأفتح فمي عندها، وأبتلع الطعام بدقائق، غيرَ مُباليةٍ بتحوُّله قطعاً باردة وجامدة بالكاد يمكن ابتلاعها.
كانت خالات أبي وصديقاتهن العجائز اللواتي كُنّ يُقِمنَ في بيتنا فتراتٍ طويلةً، جرياً على العادات العائلية السائدة، بمثابة كُتُبٍ إنسانيةٍ مُتحركة، تروي القصص بغزارةٍ مثل شلالٍ لا يتوقف. كُنَّ يمتلكن ثقافةً شعبيةً غنيةً بالقصص والحكايا والأمثال والكائنات الخرافية، مثل الغول والعامورة، وأشكالٍ وألوانٍ من قصص الخيال المُلَوَّن الطافحة بالرعب في الوقت ذاته، مثل قصص التهام الغيلان البشر. كان لمدينة الحكايا الخليل، تلك التي عاشت انغلاقاً على نفسها كقلعةٍ مُغلقةٍ فوق رأس جبلٍ يُطلُّ على الجنوب ويستعصي على الفاتحين، تراثٌ شعبيٌّ غنيٌّ وحافل. حتى أنني عرفت عجائز من العائلة كُنَّ يُوجِّهنَ رسائل إلى الصبايا عبر ذكر قصصٍ شائقةٍ ومخترَعةٍ فورياً، كي لا يتورَّطن في الوعظ والإرشاد وتَنفُر الصبايا من توجيهاتهن.
هكذا كانت «الخريفيات» ثقافتي الأُولى التي سقتني إياها تلك العجائز الظريفات، اللواتي تواجدن في حياتي، لأنّ جدتي كانت رحلت منذ طفولة والدي. كُنَّ هُنَّ مَن رَوَيْنَ نسغ الخيال بعشرات القصص والخريفيات. أما والدي، فقد اخترع لي قصصاً ساخرةً عن الشاطر حسن، يستند فيها إلى النص الأصل، ويقوم بتطعيمها بألمعيةِ البطلِ الشعبيّ، الذي كان مُتمرّداً دوماً على السلطان الخائر.
هكذا ابتدأتُ في ما بعد قراءةَ أيِّ قصةٍ أعثُرُ عليها في بيتنا. فقد وَجدتُ رواية «الأُم»، وكنتُ سَئِمَةً من انهماك والدي وأُمّي بضيوفهما المثقفين الذين لا يتوقفون عن النقاش، وبدأتُ أقرأها وحدي وأنا في سنّ الخامسة من دون أن أفهم شيئاً من المحتوى، عدا وجود الأُم وحدها. كانت المفردات غامضة. فما هو معنى «العُمّال»، أو الاحتشاد على رصيف «محطة قطار»، أو «العمل والنقابات»؟ لم أستطع فهم لماذا يجتمعون، ولم تقوم الأُم بما قامت؟ وظلت مفردة «العُمّال» صعبةً أبداً، على رغم شروح والدي وأُمي وأصدقائهما.
بعدها مباشرةً عثرتُ في مكتبة البيت على مُجَلَّد «ألف ليلة»– طبعة بولاق، إلا أنّ الكلمة الأخيرة بقيت تُمثّل لي معنىً غامضاً. فمَن هي بولاق؟ هل هي سيدةٌ أم امرأةٌ أم ماذا؟ إلا أنّ أُمّي لم تشرح لي أيَّ معانٍ بعدَ أن حرّمت عليّ المطالعة في هذا الكتاب، بدعوى أنه ليس مناسباً لعمري.
أعجبَتْني قصص الكتاب، التي استطعتُ أن أفهم مفرداتها وأن أتخيَّل الأمكنة فيها، ولهذا بِتُّ أتسلَّلُ إلى شرفة المطبخ كي أقرأ منها. وتتالت بعدها كُتُبٌ تُوافق عليها أُمّي، مثل سلسلة قصص الأطفال لـ «كامل الكيلاني» و «المكتبة الخضراء»، ومجلاتٌ مثل «سمير» و «سندباد» كنتُ أعتبرها بمثابة تحليةٍ بعد الطعام، لأنها تُسَلّي ولا تترك وراءها إلا قليلاً من طعوم القصص.
بدأتُ مرحلةً جديدةً في القراءة عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأنا في مدرستي المقدسية الداخلية التي يقع قُربَها مركزٌ ثقافيٌّ فيه مكتبةٌ للكبار كانت غنيةً بالأدب الأميركيّ والعالميّ. حصلتُ على حقٍّ مُتميِّزٍ في هذه المكتبة، وهو استعارةُ أربعة كُتُبٍ دفعةً واحدة، فيما لم يكُن مسموحاً للعموم استعارةُ أكثر من كتابين في كلِّ مرة. كان ذلك ناجماً عن نشاطي وسرعتي في إبدال الكتب، بحيث بدا للموظفة اللطيفة هناك أنها قد تُوفّر على نفسها وعليَّ إجراءاتِ قُدومي كُلَّ يومٍ أو يومين.
شخصية سكارليت أُوهارا الفاتنة هي التي جعلتني على ما أنا عليه من تعلُّقٍ بالروايات، لأنني اكتشفتُ عبر رواية «ذهب مع الريح»، التي قرأتُها في ألف صفحةٍ مُقَسَّمةٍ على جزئين كاملةً، أنَّ قصص الناس هي التي تصنع التاريخ، وأنّ هذه الشخصيات الآسرة التي تشابهنا ونشابهها هي التي تجعلنا نتطلع إلى الأحداث والناس وأنفسنا في الوقت ذاته. وللمرة الأُولى، أقرأ عن الحروب في مناطق أُخرى من العالم، بعد أن ظننتُ أنَّ الحرب وحدها كانت مصنوعةً خصيصاً لنا وحدنا، كي ترقدَ تحت أَسِرَّةِ أطفالٍ يتامى من دير ياسين هُجِّروا من منازلهم بعد مذابح وحشية. وبدأتُ أعرف أنّ هناك معنىً عميقاً لحرية البشر وتمرُّدهم على عبودية اللون، أو عبودية المستعمر الذي يسطو على أراضي السكان الأصليين ولا يعبأ بقتلهم، كما حدث في فلسطين. وهكذا بدأتُ أكتبُ شعراً حول ما أراه. استهوتني بعدها رواياتٌ عربيةٌ ومُترجَمةٌ كثيرة، فإضافةً إلى التعليم المدرسيّ، بدأتُ مرحلة التعرف إلى الأدب العربي وحدي في دارنا، ما أثار فخر أبي وأُمّي، فساعدتني والدتي على إنشاء مكتبةٍ خاصةٍ بي في البيت، تضمّ أعمال طه حسين وتوفيق الحكــيم وعباس العقاد الكاملة وآخرين وأيّ كُتُبٍ أتمكَّنُ من قراءتها. ومنذ العاشرة، كان والدي يُوالي إعطائي نصوصاً عربيةً قديمةً للحفظ، مثل «لامية العجم» التي شرحها لي تدريجياً، وجعلني أحفظها غيباً مقابل زيادةٍ في مصروفي. كانت مواضيع البيت المفضلة في بيتنا تتمركز على الثقافة والكتب، خصوصاً بعدما بات شغوفاً بعلم الفضاء، وباشر نحتَ عدسة تليسكوب يدوياً هي الأُولى المصنوعة في الشرق الأوسط في ذلك الحين. ثم كتب كتابه المعروف «الكون الأحدب» الذي شرح فيه نظرية آينشتاين، ما مَثَّلَ نقلةً في مسار الكُتُبِ العلميةِ الصادرةِ بالعربية.
كانت ألعابُنا المُفَضّلةُ التي نجتمع عليها أُسَرِيّاً تتمثل في تبادُل الأحاجي الشعرية والنظريات العلمية، خصوصاً ما يختصُّ بالفضاء ومُقارعة الأفكار مع زُوَّار البيت والعيادة، الذين يحضُرون خصيصاً من مُدُنٍ وبلداتٍ أُخرى لمشاهدة النجوم والكواكب من على سطح الدار، والاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية التي جلب والدي مجموعة أُسطواناتٍ كبيرة منها، وحضور أفلام السينما التي تربَّيْنا على أنْ نراها أُسبوعياً كُلَّ فيلمين بتذكرةٍ واحدة. وفي ما بعد، دخلَت بهجةُ الرسم حياتَنا، فقد صار والدي يرسم بالزيت، ولحقته أُمّي وتبعتُهم أيضاً. وانصرف ظنّي حين ذهابي إلى الجامعة إلى أنَّني سأكون رسامةً أو مُمثلةَ سينما في جميع الحالات، لأنها أكثر ما أُحبُّه. كنت قد نشرتُ أكثر من قطعةٍ تضمُّ خواطري في الجرائد تحتَ أسماءٍ رمزيةٍ وأنا في الثانيةَ عشْرةَ من دون أن أُخبر أحداً عدا أُمّي. تمَّت كلُّ تلك الهوايات والمشاغل في منزلٍ صغيرٍ جداً مُلحَقٍ بالعيادة، لأنَّ ميزانية العائلة كانت مُكَرَّسةً للإيفاء بالديون، التي نتجَتْ عن السجن السياسيِّ المُتواصل لوالدي، على رغم أنَّهُ لم يكن حزبياً، بل كان وطنياً يُمارس وطنيته بكونه طبيب الفقراء الآتين من المُخيَّمات الكبرى المُحيطة بأريحا، يُعالجهم ويُقدِّم إليهم الدواء مجاناً، ويَطمئنُّ عليهم بقلبٍ طيب، فقد كانت عيادته هي العيادة الأُولى التي فُتحت في البلدة. وكان يدعم الحركات والأحزاب الوطنية، حتى أنه ترشح للبرلمان مع حزبٍ يومَها، وشاركَتْهُ أُمِّي القائدة النسائية التي كانت مُديرةً فذّةً لا تُنسَى في مدارس وكالة غوث اللاجئين، التي لعبت دوراً بارزاً في التظاهُرات الوطنية وفي احتجاجات زوجات المساجين، حين كان يُصبح مقرُّ أبي السجن بين لحظةٍ وأُخرى.
عانينا الفقر المُدقع أو الاعتيادي أحياناً، وعِشنا برخاءٍ أحياناً أُخرى، لكنّ السينما والكُتُب والفنون لم تنقطع مرّةً عن حياتنا، حتى أننا كنا نخترع وأُمي وأبي طُرقاً جديدةً في إعمال الخيال، تتمثَّلُ في التطريز الجماليّ الذي يُطلق سراح الألوان، واللوحات الزيتية الرومانسية، وكذلك في إعداد مجلاتٍ حائطيةٍ للمدرسة كان والدي يُقدم لي فيها معلوماتٍ علميةً مُقترنةً بنشراتٍ طبيةٍ مُرادفة.
القراءة هي أصلاً «أرضُ العجائب»، وفي ما بعد صار كلُّ ما في حياتي يتحوَّلُ إلى هذا الترياق السحريّ الذي يُزيح البشاعة والمنفى والعذاب التي لا يستحقها بشر. وبالكلمات السحرية نُداوي جراح الروح، ونحملها على قبول الحياة. ويتحوَّلُ كلُّ شيءٍ إلى قراءة. أنت تقرأ الفيلم بصرياً، والفنون التشكيلية والموسيقى تتلو عليك قصتها. كلُّ شيءٍ يتحوَّلُ في العالم إلى قصةٍ مثل الـD.N.A .
وكانتْ لديَّ في المدرسة مُعلمةٌ لمادة اللغة العربية، كانت تُدهش الصفوف بقدرتها على إعارة رواياتٍ مُهمّةٍ تُحضرها من بيتها وتُدَوِّرُها علينا.
كل ذلك توقَّف وانتهى بعد حدوث مأساة الـ67 أو ما يُسَمَّى حرب «الستة أيام»، التي لم نر فيها حرباً، وإنّما تهجيراً دفعَنا إلى أن نُصبِحَ لاجئين بمحض الصدفة، حين قرَّر والدي أن يصطحب بناتِه إلى عمّان في رحلة يومٍ واحد، لِنَكونَ في ضيافةِ أُسرةٍ من الأصدقاء، بسبب دوامه التطوُّعيِّ المُتواصل في المستشفى الحكومي، وعدم قدرته على رعايتنا أثناء غيابه الطويل. كان موتُ أُمّي المُبَكِّر قبلها فاجعةً جعَلَتْ منا أيتاماً، وجعَلَتْ مني الأُخت الكبرى التي عليها العناية بأربعِ بنات.
قال أبي، الذي صدَّقَ كذبةَ الأنظمةِ العربيةِ عن الانتصار المبين، إنه من غير الضروريِّ أن نأخُذَ سوى كيسٍ فيه ثياب النوم، لأنَّنا سنرجع بعد أيام، لكنَّني لمحتُ كتاب «أرض البرتقال الحزين» الذي كنتُ أقرأُهُ على الطاولة، ولمحتُ أشجار البرتقال من شباك الدار، وغزاني حزنٌ داهِم، فحملتُ معي صورةَ أُمّي وقلمي الحبر الذي أعتز به، وقطعةَ صابونٍ نابلسي. حملتُ حينها تجسيداً لذكرى أُمي أجملَ ما كان في العائلة، وحبرَ الكتابةِ، ورائحةَ صابون الذكريات.
عجز والدي عن العودة إلى فلسطين، بسبب تفجير الجسر الوحيد الذي يربط الضفة بالأردن في اليوم ذاته حين عزم على قيادة سيارته للعودة، وحينها عرف أننا تحوَّلنا لاجئين دائمين. كانت رحلة الخروج من أريحا طويلةً وشاقة، وتحوَّلَت من مجرد ساعةٍ واحدةٍ لمئة كيلومترٍ إلى ستِّ ساعاتٍ من الاختباء على جوانب الطرق وفي الحُفَر، بسبب المقاتلات الجوية والنابالم وعشرات الجثث المرمية على جانبي الطريق. كل حياتي ربما لا تُماثل استعادةً لتلك اللحظة حين تركتُ الدار هُنيهةً أو لحظة. حدث هذا لسبب تقليص عدد السكان في الضفة الغربية، فقد هدموا الجسر وفجَّروه لمنعنا جميعاً من العودة إلى البيت المُطمَئِنّ وإلى الأسِرَّةِ الهانئة التي غادرناها، واللوحات والكُتُب التي خلَّفناها وراءنا، والأهم إلى عوائلنا وأهلنا وسمائنا وأشجارنا وشوارعنا وأصدقائنا وأصحابنا. في لحظةٍ واحدةٍ تمَّ حرماننا من كل ما يمتلكه البشر، كي نصيرَ مجرد لاجئين ضائعين بين الدُّوَل.
حين دخلتُ الجامعة بعدها كان رأسي مُشَبَّعاً بأحلامٍ كبيرةٍ كي أدرس شيئاً من علوم الفضاء، ولأنّ من الاستحالة إيجاد كليةٍ للفضاء في عالمنا العربي، درستُ الفلسفة، لأنَّني أردتُ أن أعرفَ هويتي والهويات المتقابلة في الأفكار الكونية. كانت هناك أسماءٌ لامعةٌ ضمن أساتذتي، مثل: صادق جلال العظم وعادل فاخوري وفؤاد زكريا وغيرهم. وفي ما بعد، حين انتقلتُ إلى الجامعة اللبنانية، درستُ علم النفس على أيدي أساتذةٍ مُتميِّزين، مثل نزار الزين ومصطفى حجازي وآخرين. ظلت الكُتُبُ تُنير طُرقاً جديدةً ومُثيرةً لم تخطر لي.
خلال دراسة الماجستير في علم النفس، وبعد أن أتممتُ امتحاناتي الكتابية وبقي عليَّ أنْ أُكمل الرسالة، مرَّتْ ببيروت فترةٌ مُريعة من الحرب التي تصاعدت إلى ذروتها في نهاية السبعينيات، ما فرَضَ على الكثيرين تقليصَ المَهامّ والنشاطات لصعوبة الحركة. قمتُ عندها بكتابةِ روايتي الأُولى «بُوصلةٌ من أجل عباد الشمس»، عن الأسئلة التي تدورُ عن مُعضلات السياسة والمنافي واللجوء، وحين لَقِيَت الروايةُ استقبالاً طيباً أوقفتُ إكمالَ رسالة الماجستير، وبدأتُ دراسةَ الأدبِ الإنجليزيِّ لكي أطَّلِعَ على الأدب العالميِّ عن قُرب، وكي لا أعتمدَ في خياراتي الأدبية على الترجمات وحدها. بدا أنَّ الروايةَ ستكون قدَري حينها، ولم تكن إعادةُ الدراسة الجامعية في موضوعٍ جديدٍ خياراً سهلاً، فقد كانت خطوةً ثوريةً غيرَ بسيطةٍ في ذلك الحين بالنسبة إلَيَّ كصحافيةٍ مُثقَلَةٍ بالمهمات، وكَأُمٍّ لطفلَيْن تحت وطأة حربٍ رهيبةٍ من دونِ أيِّ مُساعدة. وكان عليَّ أنْ أقومَ بقراءة آلاف الصفحات من الكتب الإنجليزية، وبالدراسة من جديد، وقمتُ بهذه المهمة بمُنتهى الفخر والدأب وأنا مُفعمةٌ بالشكر لذلك الاختيار، بسبب جمالِ ما كنتُ أدرُسُهُ وروعتِه، حتى أنني كتبتُ مرةً سُوناتةً صغيرةً لشدةِ اندماجي بسوناتات شيكسبير. وبدأتُ حينها ترجمةَ مُختاراتٍ من قصصٍ عالميةٍ لِتُنشَرَ في الصحافة.
أبشع ما حدث أيامها أنَّ كتابي القصصي الثاني كان موجوداً في مُسَوَّدته الأخيرة في «دار العودة» في كورنيش المزرعة في البناية ذاتها التي تقع فيها منظمة التحرير، وأنَّ الجيش الإسرائيلي حين احتلَّ بيروت قام بمُصادرتها مع بقية المخطوطات في دار النشر. ولم تكُن لديَّ مُسَوَّداتٌ للعديد من القصص، لذلك شطبتُ المجموعة، وقمتُ بكتابة مجموعاتٍ قصصيةٍ أُخرى نُشِرَت خلال إقامتي في دمشق بعدها، مثل: «شُرفة على الفاكهاني»، وهي مجموعةُ قصصٍ طويلةٍ (نوقيلا)، ومجموعة «أنا أُريد النهار»، و «قصص الحب والملاحقة» التي نُشِرَت في اليمن حينها بمبادرةٍ من سعدي يوسف.
بعد تدمير مخيمات الفلسطينيين في لبنان مراتٍ مُتعدّدةً، أحسستُ بالدمار النفسيِّ الكامل، فما هو هذا المصير المر الذي يُقابل اللاجئين بعيداً من وطنهم. قُمتُ ببحثٍ سوسيولوجيٍّ وتاريخيٍّ وإنسانيٍّ حولَ تلّ الزعتر، كي أبدأ مشروعاً روائياً عن الوجود الفلسطينيّ في لبنان، لكنّ غِنَى المادة وثِقَلَ ما جرى جعلا رواية «عين المرآة» نتاجاً مُتكاملاً عن مكانٍ وبشَرٍ وقصصٍ وأحزانٍ صنعَتْها الحرب. وهكذا أجَّلْتُ إكمالَ المشروع في روايةٍ أُخرى تابعةٍ للفترة الزمنية التالية، لأنّ «نُجوم أريحا» كانت روايةً اقترحَتْها عليَّ حرب احتلال العراق، حين رأيتُ الأهوالَ التي تجري على العراقيين وتُدمّر حياتهم، وعرفتُ أنَّ العالم العربيّ قد تمزَّقَ إلى الأبد، فأحسستُ بالحنين لاستعادة أريحا الضائعة وحياتِنا التي بُتِرَت فيها، ولو كان ذلك بالحُروف التي تصف دائرةً يتوسَّطُها ثقبٌ هائلٌ هُوَ سنواتُ غيابِنا عن بلدنا.
وفي ما بعد، كتبتُ «جحيم ذهبيّ» عن مَنافٍ مُتسلسلةٍ يعيشها الفلسطينيُّ بلا توقُّف، وكنت أعيش في تونس حينها.
كانت مهنتي كصحافيةٍ هي أهمُّ ما دفعني إلى الفضاء العام، كي أرى وأُشاهد وأسمع وأنظر وأتعلَّم. واعتبرت الدأب أفضل ما يمكن أن نحظى، روائياتٍ أو روائيين، بالحصول عليه. كتبتُ روايتي الأُولى في سنتين، ولما قرأها ناشرٌ وأخبرني أنها «قماشةٌ روائيةٌ جيدة»، اشتغلتُ على كتابتها من جديدٍ سنةً أُخرى. وحين كتبتُ «عين المرآة»، قمتُ بإجراء عشرات المُقابلات مع الشهود، ورسمتُ خرائط لتحركات أفراد الرواية، ودقَّقتُ في كلِّ التفاصيل، حتى في تلك الليالي التي سطع القمر فيها أو غاب خلال مُجريات الرواية. كما عملتُ على جَمع كل الوثائق المكتوبة أو الشفاهية، وقمتُ أيضاً بالتدقيق في تفاصيل الوقائع كي تكون لخلفيةِ شخصياتي الروائية وَسَطاً غنياً ومُمتلئاً برائحة البشر، على رغم الحروب التي تُبيدهم. أردتُ أن أبنيَ المُخيَّم المهدوم بالكلمات، وأن أستعيدَ تاريخ الناس الاعتياديين، عكسَ ما تتخيَّلُه الروايات التي تجد أبطالاً عظماء لها.
في روايتي الأخيرة «الخيمة البيضاء»، اشتغلتُ خمسَ سنواتٍ على جلاء معنى الالتباس في مفاهيم الفلسطينيين تجاه الأشياء. وتساءلتُ فيها عن أشياء كثيرة: هل ما زالت الثورة هي الثورة؟ وهل ما زال أبطالٌ رومانتيكيُّون يقودونها إلى الحرية والعدالة، أم أنَّ ما يحصل قد يكون مُغايِراً تماماً للنسخة الأُولى؟ وأظنُّني اشتغلتُ على معنى الالتباس، لأنَّهُ يُمثّل شخصيتي، فحين يتوقعني الناس أن أكون مُمتثلةً للواقع أكون مُتمردة، وحين يظنون أنني أمتلك اليقين أُعلن أنَّني لا أعرف شيئاً. فأنا امرأةٌ من عالمٍ قديمٍ يُسجَنُ الناسُ فيه بسبب الاختلاف، وأنا التي أعتز بالاختلاف وأُدافعُ عنه من دون قلقٍ، إلا قلقَ الرضوخ. لا أُريدُ أن أكونَ نُسخةً مُكَرَّرةً مما تطمح النساءُ عندنا وفي العالم إلى أنْ يَكُنَّه.
أهمُّ ما استطعتُ عملَهُ هو تعلُّم الإصغاء إلى الناس وقصصهم، لأنَّ هذا ما يُوحِّدُنا جميعاً. عشتُ في بيروت عشر سنوات كانت بمثابة مدرسةٍ غنيةٍ حين التقَت الثورةُ الفلسطينيةُ بالحداثة اللبنانية بالمزيج الثقافي العربي الفريد الذي توفَّر حينذاك. وفي دمشق، تعرفتُ إلى تاريخ الشرق القديم في متاحف ما زالت تحملُ رائحةَ إمبراطورية «إبلا» و «ماري». وهناك تعلَّمتُ تحليل الأفلام، وانتميتُ إلى تمرُّدِها في رفضها واقعَ الإذعان والرضوخ الذي تفرضه الأنظمة العربية التي تشبه المستحاثات الحجرية القديمة.
أدين لتونس بأنها كانت محطةً للهدوء اللازم للتأمُّل، إضافةً إلى دفء أهلها وحنوهم الجميل على الفلسطينيين. فيها تعلَّمْتُ أنْ أُكَرِّسَ للجمال وقتاً، وأن أجعل التواصُلَ مع الطبيعة هدفاً يومياً لا يغيب عن البال. وإن كنت أدين بالتأثُّر لأحدٍ ما، فذلك لأُستاذي في الفلسفة صادق جلال العظم، الذي رعى جيلاً كاملاً بنبرته الناقدة، ولكُتَّابٍ انتقدوا الواقع العربي وحاولوا تعريته، مثل: صُنع الله إبراهيم وزكريا تامر وجمال الغيطاني وخالدة سعيد وآخرين. كما أدين لكلِّ مَن قُمتُ معهم بمقابلاتٍ ثقافيةٍ قَيِّمَةٍ على مدار سنواتٍ طويلةٍ أخرجوا من ذات نفوسهم لي. لقد تعلَّمتُ من كُلِّ فنانٍ أو كاتبٍ أو مُثقَّفٍ التقيته، وأخُصُّ بالذكر أستاذي الكبير محمود درويش. محمود درويش كان مدرسةً جماليةً وإنسانيةً كاملةً في حياتي.
وحين أنظر الآن إلى حصيلةِ أربع رواياتٍ ومجموعة قصص «نوفيلا» وأربعِ مجموعاتٍ قصصيةٍ وثلاث كُتُبِ نصوصٍ شعريةٍ وكتابَيْن عن محمود درويش وعن فدوى طوقان، وإلى سيناريوات أفلامٍ عدة، إضافةً إلى سبعة أفلامٍ وثائقيةٍ قُمتُ بكتابتها وإخراجها ونالت جوائز دولية، إذ أنظر إلى هذه الحصيلة أُحس بأنّها لا تُمَثِّلُ رُبعَ ما كان يُمكنني إنتاجُه لو لم أعش تحت وطأةِ كُلِّ هذه الحروب، وتحت إسار هذا الاحتلال الطويل.
ولا أريد شيئاً.. إلا أنْ أكتُب!
* هذه المادة نشرت بالانكليزية في مجلة «بانيبال» العدد 62 - تموز (يوليو) 2018. تنشر «الحياة» النص العربي بالاتفاق مع «بانيبال».