نرى في طريقنا إلى القامشلي، أكبر مدينة كردية في شمال سوريا، رتلا عسكريا أمريكيا ترافقه طائرات مقاتلة تتجه شرقا نحو الحدود العراقية. إنهم يغادرون المنطقة الكردية.
المرة الأولى التي رأيت فيها شخصا أمريكيا في سوريا كانت في عام 2016. كان واحدا من أفراد القوات الأمريكية الخاصة التي أُرسلت في مهمة لدعم الأكراد الذين كانوا يقاتلون تنظيم الدولة الإسلامية. وكان السكان المحليون متحمسين حين شاهدوا وصولهم إلى المنطقة.
لكن المشهد جاء على النقيض تماما هذه المرة. الآن يمكنك أن ترى الخوف والقلق على وجوه الناظرين.
كنا على بعد بضعة كيلومترات فقط من الحدود التركية، حين حامت طائرات في سماء المنطقة، تاركة وراءها دخانا أبيض أثناء عبورها المجال الجوي التركي ذهابا وإيابا.
تنهد أحد مرشدينا وقال لي باللغة الكردية إن "ترامب غير شريف".
الأكراد لديهم أسباب تدفعهم للقلق. فهم يواجهون تركيا المجاورة، من ناحية، ويواجهون قوات الحكومة السورية، من ناحية أخرى.
ومع مغادرة الولايات المتحدة الآن، أصبح الأكراد على قناعة بأن ليس لهم أصدقاء سوى الجبال التي يعيشون فيها بهذه المنطقة.
"ترامب باعنا"
منذ اللحظة التي وصلنا فيها إلى القامشلي، يسأل الأكراد العاديون، من الخباز إلى النادل: "لماذا باعنا ترامب؟". إنه مجتمع تقليدي يعتز بميثاق للشرف ولا يفهم لماذا تم التخلي عنهم.
ومما سمعنا مرارا وتكرارا: "أمريكا طعنتنا في ظهرنا.. ترامب باعنا.. تعرضنا للخيانة".
تتزين ساحات القامشلي وأعمدة الكهرباء فيها بصور الرجال والنساء الذين قتلوا في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
وفي كل يوم تشيع جنازة في مكان ما بهذه المنطقة. الحال هكذا منذ أن شن تنظيم الدولة الإسلامية هجوما على الأكراد في عام 2014. لكن الضحايا اليوم هم أولئك الذين قُتلوا منذ أن شنت القوات التركية والقوات المتحالفة معها هجوما عبر الحدود في وقت سابق من الشهر الجاري.
وأثناء الجنازات، يخفي العديد من المشيعين دموعهم. وبدلا من ذلك، يحملون النعوش إلى المقابر بالرقص والهتافات.
أثناء إحدى هذه المراسم، لتشييع أحد قتلى جماعة "وحدات حماية الشعب" الكردية، اقترب منّي رجل طويل في الستينيات من العمر، وقال لي بهدوء: "أردوغان لا يحب الأكراد. إنه يريدنا أن نغادر"، وذلك في إشارة إلى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي يعتبر الجماعة الكردية إرهابية.
فقد الأكراد 11 ألف رجل وامرأة أثناء المعارك ضد تنظيم الدولة الإسلامية. "المعركة لم تكن معركتنا وحدنا. لقد قاتلنا من أجل الإنسانية. أين المجتمع الدولي؟ لماذا لا يمنعون أردوغان؟"، بحسب الرجل.
'ما الجدوى؟'
سألني صبي يدعى بهوز، يبلغ من العمر 16 عاما يعمل بالخبز لمقاتلين على خط المواجهة، عن رأيي في الأمريكيين والأوروبيين. "هل تعتقد أنهم سوف يمنعون أردوغان من ذبحنا؟".
ثم صاح صبي أكبر سنا: "لقد باعنا ترامب. النفط أهم من حياتنا".
يبدو الخوف واضحا على الأولاد الصغار. فهم يعرفون أن الفصائل الإسلامية المسلحة الموالية لتركيا إذا وصلت إلى هنا فإنهم سيكونون الهدف الرئيسي. فقد أظهرت مقاطع فيديو بالفعل من يبدو أنهم مسلحون مدعومون من تركيا وهم يهتفون "الله أكبر" ويطلقون النار على شباب مثلهم مكبلي الأيدي.
في مستشفى لرعاية المصابين من مقاتلي "وحدات حماية الشعب"، تهرع الطبيبة، روجدة، من غرفة عمليات إلى أخرى. الشابة، وهي في الثلاثينيات من عمرها، تدير المستشفى كذلك.
وتسأل وهي متعبة: "ما الجدوى من التصوير؟ لا تضيع وقتك. العالم أشاح بوجهه عنا".
قابلت هناك مريضة تدعى جيان، وتبلغ من العمر 23 عاما. كانت تجلس على سريرها، وهي شاردة الذهن، وحول عينيها هالات داكنة. كانت قد أصيبت بكسر في الجمجمة وبإصابات في يدها وساقيها.
تضحك جيان بتهكم، وتقول: "نجوت من قتال تنظيم الدولة الإسلامية في كوباني ومنبج والرقة، لكن الأتراك هم من كادوا يقتلوني".
كانت جيان في رأس العين عندما هاجمت تركيا البلدة الحدودية، وتعرضت وحدتها لقصف تركي مكثف.
"كنا ندّا للعصابات التي تدعمها تركيا، لكننا لم نستطع مجاراة قوة الأسلحة التركية"، بحسب جيان، التي تضيف: "لقد فقدت العديد من الأصدقاء".
"إنهم قادمون من أجلنا"
في الطريق إلى خارج سوريا، قابلت كينو غابرييل، المتحدث باسم "قوات سوريا الديمقراطية"، وهو ائتلاف من فصائل مسلحة يقوده الأكراد.
هو رجل طويل القامة، أخضر العينين، ترتسم على وجهه ابتسامة كبيرة. وهو مؤسس المجلس العسكري السرياني المسيحي، الذي يعد جزءا من قوات سوريا الديمقراطية.
ويتجنب غابرييل انتقاد الرئيس ترامب، على أمل أن تغير الولايات المتحدة مسارها وتعود كي تساعدهم.
وقال: "هؤلاء الجهاديون الذين تدعمهم تركيا لا يأتون إلى بلادنا فحسب، بل يعتبرونا كفارا، إنهم قادمون من أجلنا".
ومع انسحاب القوات الأمريكية من القامشلي الأسبوع الماضي بناء على أوامر ترامب، ظهرت صورة كان مغزاها للأكراد أن حلفاءهم يهرعون للمغادرة. الصورة كانت لجندي أمريكي في عربة مدرعة ويرتدي شعار وحدات حماية المرأة (قوة القتال النسائية الكردية) على ذراعه.
ويقول كينو غابرييل: "الجنود الأمريكيون مثلنا تماما، صُدموا وخاب أملهم بهذا القرار السياسي. لكن هذا ليس خطأهم. نحن نحترم تضحياتهم أيضا".