لعل الواقع المر في بلادنا كفيل بأن يخرج الحليم عن حلمه ، واللبيب عن لبه ، بل وينسي المحب حبيبه ، ولاشك أنه قد ينسي الأم رضيعها ، ولا أنكر أنني واحد ممن شغلهم ذلك الواقع ، وأنساهم تاريخ رحيل ذلك الشاعر الكبير ، الشاعر الفحل في التاريخ المعاصر عبد الله البردوني ، وغيري كثير من المثقفين اليمنيين والعرب الذين لم يعطوا ذلك الشاعر العبقري شيئا مما يستحق لا في حياته ولا بعد مماته ، أكان ذلك بواقع الغفلة والنسيان ، أو بفعل الغوص في غياهيب شظف العيش ، واللهث وراء متطلبات الحياة ، لاسيما والمثقف قد أضحى يعيش في عسر لم يسبق له مثيل في تاريخ الأمة إلا ماكان من عصر الانحطاط ، عصر الدويلات يوم هوى الشاعر والأديب إلى أدنى مراتب القوم إذ احترف صناعة الشعر الجزارون والخبازون ، وغيرهم من الطبقات الدنيا ، ولا أظن أن المثقفين والأدباء والشعراء والكتاب اليمنيين اليوم بأفضل حال من أولئك آنذاك ، وربما صدقت نبوءة المتنبي فينا إذ قال : ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم حقا لقد امتلك البردوني بصيرة نافذة ، وعقلا حمل من الأفكار مالم تحمله الأمة ، همته طالت عنان السماء ، عاش بشعره هم المهمومين ، وبكى لحزن الثكالى وآلام المظلومين ، استوعب بؤس البائسين ، وجوع الجائعين ، ومعاناة الفقراء والمعدمين ، كان شعره لسان حالهم ؛ يصور تطلعاتهم ، ويحكي معاناتهم ، ينشد أمانيهم وآمالهم ، يرسم جور السلطان عليهم ، وكيف قاسمهم أرزاقهم ، كان يبشر أمته بالفجر ، في الوقت الذي قد نسيت هي أو تناست معاني الإشراق ودلالات السطوع ، لم يكن يتردد في إصدار الإنذارات ، وتكرار التحذيرات لأمته من التهاون أوالسكوت تجاه عبث العابثين ، وأطماع الطامعين ، مع أنها قد اعتادت من القوت قبول الفتات ، والتلذذ باحتساء الفضلات ، ألم يجسد - رحمة الله تغشاه - ذلك في قوله : أمير النفط نحن يداك ** نحن أحدَ أنيابك ونحن القادة العطشى ** إلى فضلات أكوابك ومسئولون في صنعاء ** وفراشون في بابك
ظل شاعرنا يمجد شعبه ويبتعث الأمل في أمته ، تارة بتوظيف الماضي وأخرى بالسخرية والتهكم من الحاضر ، قال في شعبه : وليحشدوا أنت تدري *** إن المخيفين أخوف لهم حديد ونار *** وهم من القش أضعف يامصطفى أي سر *** تحت القميص المنتف يامصطفى ياكتابا *** من كل قلب تألف ويازمانا سيأتي *** يمحو الزمان المزيف وقال أيضا : لقد جئنا نجر الشعب ** في أعتاب أعتابك ونأتي كلما تهوى ** نمسح نعل حجابك ونستجديك ألقابا ** نتوجها بألقابك فمرنا كيفما شاءت ** نوايا ليل سردابك نعم ياسيد الأذناب ** إنا خير أذنابك وقال في أمته : ماذا ترى يا أبا تمام هل كذبت ** أحسابنا أو تناسى عرقه الذهب عروبة اليوم أخرى لاينم على ** وجودها اسم ولا لون ولا لقب تنسى الرؤوس العوالي نار نخوتها ** إذا امتطاها إلى أسياده الذنب وقال في حاضرة الأمة ، مدينة سام بن نوح : لكنها رغم بخل الغيث مابرحت ** حبلى وفي بطنها قحطان أو كربُ جل شعره ثوريا يدعو إلى الانعتاق من ربقة الذل وقيود الهوان ، عاش ثائرا يمثل مزايا الثائر الحقيقي الذي يتجرع مرارات الجوع ، ويتلذذ شظف العيش ، تجده خلق الملبس ، زاهدا في ملذات الدنيا ، لايصفف شعره ، ولايرتب نفسه ، ولايهتم بمنظره ، ولايأبه لهندامه .... أعزائي القراء سوف نواصل الحديث في هذا العظيم الذي جهلت أمته مقدار عظمته أو تجاهلت ، انتظرونا على الموعد ...........