حقا إننا في زمن غريب مريب ، وقد قال فيه المصطفى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم : " القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر " وأرى في معنى هذا الحديث أمورا كثيرة إذ لايتوقف المعنى عند الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، فضلا عن التزام المسلم بالأوامر الربانية واجتناب نواهيه...
غير أن هناك مايحز في النفس ؛ ومنه على سبيل التمثيل أن تجد قلة قليلة ربما لايتجاوز عددها عدد أصابع اليد وهي تتواجد في أوساط مجتمعات تعد بعشرات الملايين ، تلك القلة القليلة تعيش غربة حقيقية في مجتمعاتها لا لجريمة ارتكبتها أو لفعل منكر مارسته ولكن لأنها تُقدم مصالح الأمة على مصالحها ، وترجو أن يُصان شرف الأمة لأن في ذلك صيانة لشرفها ، وترى أن في تقديس كرامة الأمة تقديس لكرامتها ، وتجد في الحفاظ على سيادة الأمة وقرارها ثابتا من الثوابت الذي لاتهاون في المساس بها أو التنازل عن شيء منها ، وتُؤمن بأن الأوطان لا أسواق نخاسة لبيعها بل لا تفكير أبدا في المساومة أو التفريط في ذرة رمل من ترابها أو في قطرة ماء من مياهها أو في نسمة هواء من أجوائها ، بل تَجدُ فلسفة تلك القلة القليلة تقوم على مبادئ منها ؛ أن التفريط في شيء يسير من الأرض يتبعه بيع للعرض ، ومجرد القبول بالتفكير في المصلحة الشخصية يعني الموافقة الضمنية على إفقار المجتمع ثم إهلاكه.......
أعود إلى بيت القصيد في سرديتي لهذه الليلة إذ سُررتُ كثيرا من حديث حمله إلي أحد الأحبة مفاده أن رجلا خلوقا يتبوأ منصبا كبيرا في هيكل النظام أو درجة عالية في السلم الوظيفي لما تبقى من الدولة ، كنتُ قد أهديته أنا شيئا من إنتاجي الأدبي والسياسي ذات يوم ؛ لذلك يبدو أنه من خلال قراءته لكتاباتي قد وضعني ضمن تلك الفئة القليلة التي لاتتجاوز في عددها عدد أصابع اليد ، لكنها مازالت تتمسك بثوابتها الدينية والوطنية بل تحرم حتى التفكير نحو التفريط في شيء منها ، وهذا لم أستنتجه استنتاجا من حديثه ، أو أحلله تحليلا من سياقات قوله بل قد نص عليه في قوله أحرفا وكلمات إذ قال بعد أن سأل صديقي الزائر له عني وعن أحوالي : "إن صديقكم وأخاكم عوض وطني في زمن بلا وطنية" الأمر الذي جعلني أقرأ في نصه أمورا كثيرة ، منها ؛ السخرية إذ وجدني من خلال كتاباتي أسبح عكس التيار كما يقول الحداثيون... ومنها ؛ الترحم علي أو الرأفة بي إذ رق لحالي حين أدرك أنني صادق في زمن ربما اختفى فيه الصادقون أو أوشكوا على ذلك ، وأنني شريف في زمن لم يعد للشرفاء فيه مكان ، وأنني متمسك بالثوابت الدينية والوطنية في الوقت الذي قد مرد القوم جميعهم على النفاق إلا من رحم ربي ...
ومع ذلك كله فأنا ممتن كل الامتنان له بل معتز الاعتزاز كله بمقولته :"الدكتور عوض وطني في زمن ليس به وطنية" إذ شخصني التشخيص الحقيقي بمقولته الخالدة هذه ، فأنا حقآ أجد نفسي غريبا بين أهلي وفي وطني ، وقد صدق شاعر لغة الضاد إذ قال : وهكذا كنت في أهلي وفي وطني ** إن النفيس غريب حيثما كانا