ذات عدن … ذات زمن …!

     ذات زمن .. ذات بحر ، سقطت عدن نقطة في المحيط ، فتحلق حولها الدلافين ، الحوريات ، والحيتان ، فسورتها الجبال . هناك أرادها الإله حيث ينبغي لمدن الأساطير أن تكون أكثر إكتمالا .. وقال الرب : عدني انت في أعيننا .

   عدن مدينة من مدن خيالي مذ كنت طفلا ، حين رأيتها لأول مرة كانت تتوسد الجبل ليلا ، وعندما أفقت في الصباح كانت تغسل قدميها العاريتين في مياه الخليج . وهذه هي روح الجغرافيا . .
   عندما رأوها ، وكان ذلك لأول مرة ، رأوا زرقة البحر ، فشهقوا لعبقرية المكان ولم يرتووا ، فحفروا صهاريج الطويلة في جبل شمسان ، فسالت السماء وعروق الجبال ، فكانت عبقرية الإنسان ..
      أجتمعت العبقريتان معا .. فوشحوها بالأسماء فكانت في مدى البحر : جزيرة صيرة ، خليج حقات ، الخليج الأمامي ، خليج الفيل ، ساحل أبين ، الساحل الذهبي ، ساحل العشاق ، خور مكسر ، المعلا ، التواهي ، وكلها مثل حبات اللؤلؤ لا يكتمل عقده الا بالشيخ عثمان ، ودار سعد ، والبريقة ، وكود النمر ، والغدير ..،عمران ، الخيسة ، كباجان ، فقم .. وبير احمد ..
لعدن عبقريتها حتى في اختراع الأسماء : الطويلة ، العقبة ، البجيشة ، البغدة ، القلوعة ، الزعفران ، الخساف ، العيدروس ، القطيع ..
ذات بحر ..تدفق عليها الناس من كل الجنسيات .. البحر يأتي بالسفن ومع السفن الناس : بحارة ، تجار ، قراصنة ، غزاة ، وطالبي عيش ، هنود ، فرس ، عرب ، أفارقة ، وحتى أوربيين ..
والمدينة ليست الحجارة .. الشوارع ، الطرقات ، الحارات ، البيوت .. المدينة هي الناس . هي الشحاري .. المزروع في كل ركن في الحافة ، مشرعا بابيه على شارعين .. الذي يبيع كل شيء. 

       في أصغر مكان .. يعمل ، يعيش ، ينام في الدكان ، وتفصله عن حضرموته ، وعائلته الاف الأميال .. هو مصدر الراشن ، وبنك التسليف ، وصديق الجيران ، طريقه مفتوح الى السماء ، يتعامل بالأمانة ، والشريعة .. ودفتره مصدق ، لا يعرف الغش والكذب .. فصار الحضارم من تجار عدن الكبار : بازرعة ، وباشنفر ، وباعبيد ، وباحكيم ، وباهارون ..وباصبرين ، وباحميش .
كما صاروا من مثقفيها وسياسييها الذين يشار لهم بالبنان : باذيب ، باشراحيل ، باخبيرة ، باسنيد ، باوزير . باشرين ، وباسندوة .
     كما صاروا من فنانيها الكبار : بامدهف ، بلفقيه ، ًبامخرمة ، المسلمي ، الشيخ باشراحيل ، الماس ، بن شامخ ، الحداد ، والعطاس .
وهذه المدينة تأتيك بيوتا ، ومقاهي ، ومطاعم .. اصوات الجرسونات ، عالية ..والزبائن صامتون ، والخيارات محدودة .
   وأينما تذهب في هذه المدينة ، فرائحة الطعام تجتذبك، المطاعم صغيرة ، ومزدحمة . والناس بسطاء ويأكلون بشهية ، وعجلة .
   اذا كنت في شارع الزعفران ، فرائحة الروتي الطويل ، وابوصندوق ، والكيك ، تجتذبك من مسافة بعيدة ،، والمنبعثة من فرن اليوناني ، أو فرن الأغبري .
    ومطاعم المدينة ، مفتوحة مثل شهيتك تماما ، ونكهة وجباتها ، بالسمن البلدي ، والبهارات الهندية ، تتغلغل في تلافيف معدتك ، وتلقيك على أقرب كرسي ، ولعابك يسيل ..
تلتهم بسرعة ، وتسرع بالمغادرة .
    اذا رغبت أكل السمك المشوي ، والخبز الرطب ، والخبز الملوج ، واللحم البلدي ، والمرق الدبعي ، والفتة الموز ، وفتة تمر، والحلبة فاختيارك مخبازة أفندي في محله ، لتناول وجبة غذاء دسمة .
    ولأكلة القلابة ، الكبدة ، الكلاوي ، القلوب ، واللحم الصغار ، والدقة ، والمخ ، فأفضل جلسة سمر ، وعشاء وسط روائح البهارات وأطعمة تمتد لمسافات لا نهائية ، في المطاعم المنتشرة مساء في الهواء الطلق .
     وكان من عادتي ، تناول وجبة العشاء بين وقت وآخر ، مع ثلة من الأصدقاء في واحد من تلك المطاعم . وذات ليلة ، كنا ثلاثة ، وطلب كل واحد منا وجبة مختلفة ، وكان الميدان ، يعج بالزبائن ، وكلما استعجلنا الجرسون :
– فين العشاء ؟
أجاب : فوق النار !
ومرت نصف ساعة ، وسألناه عن الطلب ، فكان رده :
_ فوق النار !
واخيرا طلبناه أن يأتينا يماء ، فاذا به يرد : فوق النار .!
انفجرنا ضاحكين ، وغاضبين ، وعرفنا انها لازمة ، أوكذبة تعود عليها ، يهذيء بها الزبائن الى حين .
   وأي منعطف أخذت ، في أية زاوية تفاجئك المقاهي ، ونكهة الشاي الملبن ، بالهيل ، والجوز ، والعسملي ، ولو كنت مستعجلا ، فستشربه بالسيسر ( صحن الفنجان ) وغالبا الزبائن مستعجلًًون من غير سبب ! ولعل أشهرها : زكو ، وفارع ، وسكران .
    وللفواكه روائح لانجدها في اي سوق .. التفاح اشكال وألوان ، احمر ، اصفر ، وأخضر ، والليم الحالي ، والفرسك ، الجوافة ، والعنب ، واعنجاس ، والأناناس ، والشمام ، والحبحب فاكهة الصيف ، والعنبة البباي ، وموز ابونقطة، في سوق الخضار والفواكه ، أوسوق الجملة في خور مكسر .. ولكثرتها لها نشرة اخبار خاصة بها مع الخضراوات من اذاعة عدن .

    وكنت اذا دخلت سوق البلدية في كريتر ، اخرج منه وقد شبعت من انواع الفواكه التي يذوقك اياها البائع لتشتري منه .. وكان أبي لا يشتري من أول صاحب بسطة !
    واينما مررت ، في شوارع كريتر، المعلا ، الشيخ ،روائح بهارات الهند ، الهيل ، الزعفران ، القرفة ، والقرنفل ، الشمار، العصفر ، والهرد .. والورس .. الفلفل ، الكمون .. لاتغادرك، وهي موجودة في كل مطبخ في عدن ، ومن مكونات ونكهات أية وجبة ، وبدونها لا لذة للطعام ..
الشوارع ، والاسواق ، ليست حيطانا .. انها روائح المشموم ، الفل ، والكاذي ، الحنون ، الزباد، الأخضرين. رائحة البن ، القهوة ، والزنجبيل .، وهي موجودة هناك منذ الأزل ، جنبا الى جنب مع روائح العطور العربية ، ذهن العود ، والصندل ، واللبان ، والبخور ، عصارة غابات الهند ، وإفريقيا ، وشرق آسيا ، وخلاصة صناعات عدن ولحج المنزلية .
    البيوت ليست حجارة .. انها الأرواح الشفيفة التي تسكن الجدران . الأعراس ، الزعاريد ، الاحلام ، الأغاني ، الشرح ، الاطفال ، الزغب الناعم ، وحراس الدهشة ،يعطرون الطرقات بخطوهم في طريقهم صباحا الى المدارس .
    تعتقد احيانا ، ان الناس لا يأكلون غير الرز والصانونة ، وان المطبخ العدني فقير .. لكن هناك قائمة من الوجبات يأكلها طوال الأسبوع.