ذات عدن ... ذات زمن

    جاءني صديقي وزميلي محمد عبد الله فارع ، الإعلامي والناقد الرياضي الجميل هامسا ومعاتبا : روووعة ماتكتب عن عدن ... لكن ... !
قلت له : لكن ماذا يامحمد ؟ !
قال : كتبت كل شىء عن عدن تقريبا الا الرياضة !
وقبل أن يسمع ردي أختفى كما ظهر فجأة ..
أنا أيضا كنت أريد ان أسأله عن أشياء كثيرة هناك في حياته البرزخية بعد سنوات من الغياب .. كنت اريد أن أساله عن حياته هناك ، واذا ما كانت افضل من حياتنا المزرية هنا .. ! عن النور والأنوار هناك ، وقد اصبحنا نعيش في ظلام دامس بدون نور ولا تنوير ! عن السلام والسكينة هناك وقد صارت حياتنا حروبا ، وقتلا ، ودمارا وخرابا !عن عصافير الدهشة ، والحور العين ، والولدان المخلدين هناك ، وقد صرنا نغتصب الطفولة هنا ، ونوئد البنات كما كنا نفعل في الجاهلية ! فلاتدري نفس بأي ذنب قتلت ! عن ما لا أذن سمعت ولاعين رأت ، وقد صرنا نقتات السموم ، ويأكل بعضنا من القمامة ، واغلبنا على الكفاف لشدة الفقر وجور الغلاء ! عن العدل والعادل هناك ، وقد ظلم الحكام والمتجبرون عبيده وعباده هنا .. ! وعن ( الكشمبر ) هناك " شفرتنا الخاصة " ، واذا ماكانوا أجمل من الكشمبر هنا ؟!!
وألمح ابتسامتك العذبة من خلف غياهب الأضواء المنسلة عندما سمعت كلمة الكشمبر كما كنت تبتسم في مساءتنا العدنية ، ونجوم الليل تنثر اضواءها على بحر التواهي ..
كنت احب أن أسأل الكثير لصديقي فارع ، و أخبره بعضا مما جرى لنا و لعدن ، لكنه لم يترك لي الفرصة .
ألقى بعتابه وأختفى فجأة كما ظهر بغتة ..
بيني وبين فارع تاريخ طويل من الزمالة والعمل في صاحبة الجلالة ، وأول ماتعارفنا كان في ( ١٤ اكتوبر ) في حافة القاضي بكريتر ، وكنت حديث عهد بالعمل في الصحافة ، وكان ذلك في نهاية 1969 .
وبيني وبينه تاريخ أطول من الود وصداقة العمر ، لم تعكر صفوها أبدا سنوات العمل حتى بعد أن أصبحت رئيسه ، وفي العمل عادة ما تظهر أمور تسمم جو الصداقة . كان يتمتع بقلب ابيض وروح رياضية ، ونبل الفرسان . و قد استمرت صداقتنا بعد أن تركت العمل في الصحيفة، وانتقلت للعمل في وزارة الخارجية ، حيث، توالت لقاءاتنا في موسكو ودمشق كلما زارهما بحكم إقامتي فيهما لسنوات طالت أكثر مما قدرت .
ذات مرة ، جاءني الشاعر الكبير محمد عبد الواسع ، شاكيا محمد فارع - وكان تعرف إليه حديثا في الفندق الفضي في دمشق -بأنه لا يكلمه في غير الرياضة ، وأنه عندما يكلمه في الشعر لا يكلمه الا في الكرة .. وكان مستغربا من ذلك . كان معروفا عن الأستاذ محمد عبدالواسع انه موسوعة شعر متحركة .. ويحفظ نحو 50000 ألف بيت . ولا يقول جملة في حديث حتى لوكان في السياسة إلا استشهد باكثر منها شعرا لطبقات الشعراء من مختلف العصور .
قلت مخففا عنه : كل منكما يتكلم بما يعرف !
ابتسم وقال : في هذا صدقت . ..
لكني كنت أعرف سبب شكواه ، كان يريد من يساعده على قتل الوقت ! كان قد تقاعد توا من عمله الدبلوماسي ، ويشعر بالملل ويريد من يستمع اليه ، ويشاركه حبه للشعر ، فوجد محمد عبد الله فارع معه في نفس الفندق ، لكنه وجده يعزف على نغمة أخرى ، ويرسل على موجة غير موجته . لم يكن له في كرة القدم . كما لم يكن للفارع في الشعر ..
كان الفارع موسوعة في مجاله لاينافسه في ذلك احد ، كونها خلال عقود من التخصص في مجال النقد الرياضي ، وكون صداقات مع أترابه من المسؤولين الرياضيين في الخارج خلال حضوره المؤتمرات الرياضيه ، وظفها في صالح الرياضة في بلده . وألف كتابا عن الرياضة في عدن يعد المرجع في هذا المجال يعد المرجع في هذا المجال أهداني نسخة منه . كما كان يقدم برامج الرياضة في تلفزيون عدن . وكان يشجع الأقلام الشابة من النقاد الرياضيين ويدفع بهم . وقاسى بصبر وشجاعة گأب مرض ابنه الذي عانى لسنوات طويلة من تكسر الكريات البيضاء حتى أن توفاه الله . وزار بيت الله الحرام وأدى فريضة الحج قبل سنوات من وفاته مختتما حياة حافلة بحب عدن والناس وكرة القدم ، وتاركا فراغا كبيرا وذكرى عطرة .. رحم الله محمد عبد الله فارع .. ابن التواهي .. الأخ و الصديق والانسان .
بحضوره المفاجىء حضر تاريخ من الأخوة والصداقة والنبل والأحلام والأحزان والذكريات وكرةالقدمً في عدن .