_ عفوًا.. هل أنت الدكتور رمزي؟
التفت نحوه وقال :
_ نعم تفضل.. من ؟
دخل بخطواتٍ مهددة بالسقوط كان مضطربًا حائرًا، جلسَ على الكرسي المقابل للدكتور ثم قال :
_ لحسن الحظ أني وجدتك وحدكَ في المكتب !
_ ولسوء حظك أنني سأذهب الآن.. لدي عمل ومرضى بانتظاري .
_ لكنني ضمنَ عملك، وربما أصبحُ مريضك.
_ من أنت ؟
_ اسمي هشام.. عمري 32 عاطلٌ عن العمل ، لم أكمل تعليمي لأنني من أسرة ليست متعلمة ، جئتُ إليك لكي تساعدني أو بالأحرى تعالجني !
قال رمزي وهو يراقب بطرف عينه أثر كلامه :
_ ومم تشكو؟
_ من فرطِ الذكرى.. أريدُ أن أنسى ! لا يهم ماكان العلاج.. دواء، حُقن، جلسات كهربائية؛ حتى لو قلت لي امكث هنا في المصح؛ لا مانع لدي لكنني بالمقابل أريدُ أن أنسى !
قال وقد تحمسَ فجأة :
_ وما الذي تريدُ أن تنساه ؟
_ كل شيء.. كل شيء ! حتى اسمي إن استطعت! أطلب النسيان كما يطلبُ العطشانُ ماءً، لو أنهُ يُشترى لاشتريته، أو لشحذتهُ. سأجلسُ أمام بابِ المسجد مع العجوز ( عبد الله) وأقولُ : نسيان للَّه يا محسنين!
حين كنتُ أصلي في رمَضان في مسجدِ حارتنا طلبتُ من الإمامِ أن يدعو لي بالنسيان لكنهُ في كل صلاة كان يدعو لي بالهداية ؛ نعم.. كنت أخالهُ يقصدني! لهذا السبب لم أعد أذهبُ للمسجد.
_ أمرك بسيط، اهدأ.. مابالكَ وكأنكَ تهذي !
_ أوه.. هل التذكر المفرط لا يعدُّ مرضًا نفسيًا ؟ إذا كان لايعد فيجب أن يعد منذ هذهِ اللحظة.
اسمع اسمع.. هل تعلم الخطأ الفادح الذي وقعَ بهِ الطب النفسي، أنهم يعدونَ النسيان مرضًا والتذكر صحة، مع أنَّهُ على العكسِ تمامًا.. فالنسيان نعمة والتذكر عِلة !
_ لنفترض أني قلت لك إنني الآن مستعدٌ لأن أعالجك.. فبماذا تريدنا أن نبدأ ؟ ما هو أول شيء تريدُ أن تنساه ؟
_ أبي.. نعم أريد أن أنسى أن ذاكَ الرجل الذي يكون أبي !
_ لمَ ؟
قال وقد استرد أنفاسهُ بكثير من المشقة والعناء :
_ هه.. الأمر مضحك للغاية. أنا الولد الوحيد لأمي تركنا أبي وحدنا حينَ كنتُ في السادسة، كان أبي رجلًا سِكيرًا نسونجيًا.. كنتُ أشاهدهُ وهو يضربُ أمي وأنا أقفُ عاجزًا حيال هذا لا أملكُ إلّا الدموع. لم نجد أحدًا يصرف علينا.. لذلك خرجت من المدرسة وكنت أذهب مع أمي للعمل في خدمة المنازل.
_ حقًا..! وأين ذهب والدك ؟
_ سافر إلى صنعاء وتزوج هناك.. لم يفكر حتى بالتواصل معنا إلا بعد سبع سنوات، جاء إلى هنا وطلب من أمي أن يأخذني معه لأن زوجته لم تنجب له الأولاد.. أنجبت له ثلاث بنات فقط !
لكنني رفضت وبكيت كثيرًا ، ورفضت أمي أيضًا، كانَ الأمرُ مستحيلًا أن أذهبَ مع رجلٍ غريب وأتركَ أمي وحدها، فتركنا أبي من دون عودة، لكنه حاول التواصل معي كثيرًا بعد وفاة أمي لكنني لم أسمح له.
_ ومتى توفيت أمك ؟
_ قبل ثلاثةِ أشهر ! كانت تلكَ هي المرة الأولى التي بها أتصلُ بأبي وأطلب منه المساعدة.. كانت أمي تموتُ أمام عينيّ ولا أستطيع فعل شيء ، ترجيت أبي كثيرًا أن يفعل شيئًا ولكن قال معتذرًا ( لا أملكُ فلسًا واحدًا .. )
_ ما سبب موتها ؟
رد بلهجة ساخرة :
_ صدقني لم يكن سبب موتها السرطان، كان سبب موتها أنها في هذا الوطن.. وأن ذاك الرجل زوجها وهذا الذي أمامك ولدها !
_ إذن أمك لم تكن مطلقة ؟
_ لم يطلقها.. ولم يسعدها ولم يساعدها ! لقد قتلها.. قتلها فقط
_ طيب وما دخل الوطن ؟
_ هه.. هل أنتَ غبي؟ اللعنة على الوطن والطب بأكمله.. الطب قبل أن يكون مهنة لكسب المال هو مهنة إنسانية هدفها إنقاذ حياة الآخرين، لكنني ما وجدتهُ في هذا الوطن عكس ذلك.. هم ينقذونَ حياة المريض لأجهلم ، لأجل المال.. لتلكَ الدرجة الذي رأيتُ بها مريضًا ملقى على الأرض يبحثونَ عن أهله ليدفعوا المال ليبدأوا بعلاجه. لقد تركوا أمي تموت بحجةِ أنني لا أملكُ المال؛ لأن هذهِ المهنة هي مصدر رزقهم، بالأحرى ليعيشوا..ونحنُ نموت، أنا ومن مثلي إذا مرضنا نموت لا نتعالج..!
وكن على يقينِ أنني جئتكَ ولا أملكُ ريالًا.. هاهاها ولكنه باستطاعتي أن أعمل هنا أي شيء لأكسب ثمن علاجي !
_ حسنًا..قل لي ما اسمك بالكامل..؟
_ اسمي.. ما اسمي ؟ لا أدري نسيت!