بعد مرور شهرين من الاستقرار في مدينة المكلا، مدينة العلم والتنوع الفكري والثقافي والاجتماعي، تلك المدينة التي تُجسد اليمن بكل مذاهبه وتوجهاته، وتُعد بوابة البلاد الشرقية ووجهها الاقتصادي والتجاري النابض، قررت أن أزور أهلي في مأرب، مدينة التاريخ والكرامة والثوار.
كان موعد الانطلاق عند الثانية بعد الظهر من حي المساكن، برفقة الرفيق المناضل الجسور يوسف الدرعي وشقيقه بدر الدرعي، الشاب الخلوق الذي زاد الرحلة دفئًا وبهجة، بسيارتهم الخاصة أصرّا أن أكون رفيقًا لهما، فانطلقنا من جولة الريان تمام الثالثة عصرًا.
ورغم طول الطريق وبعد المسافة، لم أشعر بالملل والتعب، فالحديث مع آل الدرعي كان كنسمة تُخفف عن المسافر مشقته، حديثٌ ممتع، متنوع بين الفكر والأدب والمعرفة، جعل الزمن يمضي بخفةٍ كأننا في جلسةٍ على ضفاف المكلا لا في طريقٍ يمتد على المرتفعات الجبلية ورمال الصحراء.
مع حلول المساء تم تسليم مقود السيارة، فقد كان لي مسؤولية وثقة لقيادة السيارة وأن أواصل قيادة السيارة الخاصة بهم.
لكن الطريق بين محطة غويربنا ومنطقة صافر، تلك المسافة التي تُقدر بنحو 40 كيلو مترًا، تبقى من أسوأ وأخطر مقاطع الطريق الدولي الرابط بين محافظتي مأرب وحضرموت، إنها المسافة التي خطفت أرواح الكثير من المسافرين اليمنيين، وكان آخرها قبل شهرٍ فقط، حين راح اثنا عشر مواطنًا ضحية حادثٍ مروع بين حافلة وسيارة أخرى.
ورغم وعورة الطريق ومشقة السفر، إلا أن الأحاديث الجميلة كانت تذيب التعب، والرفقة الطيبة تجعل من الصعاب نزهةً مليئة بالمواقف الودية والضحكات.
حتى إذا ما لاحت لنا معالم مأرب في الأفق، تبدل الإحساس تمامًا، شعور غامر من الحنين والعزة يغمر القلب، مأرب، قلعة الجمهورية، وحصنها المنيع، مأرب التي تحرسها الأجهزة الأمنية بعينٍ لا تنام، تلك التي تُدرك قيمة هذه المدينة التي احتضنت في بطنها آلاف الشهداء والأحرار.
رمال مأرب ذهبٌ، ومزارعها خُضرٌ كجنةٍ على الأرض، وأهلها كرامٌ أصلاء من نسل العروبة الأولى، تشعر حين تطأ أرضها وكأنك تعود إلى حضن أمك تُرحب بك جبالها قبل أهلها، وتحتضنك مزارعها قبل بيوتها.
يزداد الفرح حين تلتقي الرفاق والاهل والاولاد الذين فرقتكم الأيام، فالشوق لهم لا يُوصف، أحاديثهم لا تنتهي، ومودتهم تلامس القلب بصدقها.
مأرب مدينة لا تُزار مرة، بل تُسكن الروح إلى الأبد، ضياؤها لا يخبو، وألوانها البراقة تزين المدينة، وأشجارها المائلة برفقٍ كأنها تُلوح للعائدين مرحبةً بهم من بعيد.
أيتها مأرب، يا درة اليمن، يا سيدة الرمال والبطولات، لقد أسرت قلوبنا وجذبت مشاعرنا، فاستسلمنا لكِ طوعًا، لا نملك إلا أن نُحبك.