متى تضعُ الحربُ أوزارَها؟

    مللنا من الحروبِ والمَآسي، ضجت الناس من تداعيات الحروب العبثية الموغلة في الألم والمعاناة والخراب والتدمير، هرمنا وهرمت الأوطان من القتل والفوضى، والتقطع والحرابة والبلطجة .. تراجعت منظومة الأخلاق العامة، وضجت الشوارع والبيوت من الغل والأحقاد والكراهية.. اشتقنا إلى أزمنةٍ مرت كأحلام الكرى، كانت الأوطان فيها تنعم بالحبِّ والسلام، تصحو أيامها على أناشيد وأغاني الصباح من ساحات المدارس ورياض الأطفال يذهب الموظفون إلى مرافق الدولة ومؤسساتها التعليمية والصحية والخدمية التي توقفت من سنوات طوال .. لم تعد السفن تشق عباب البحر في ميناء عدن، ولا عادت " مصْفَاةُ النَّفْط"إلى سابق عهدها ومتى تفتح الطرق والمطارات، ومتى تعود المشتقات النفطية بجودتها العالية وأسعارها المناسبة، وتكون المواد الغذائية واللحوم والأسماك والأدوية في متناول الجميع وبسعرها الذي كان قبل عواصف الخراب التي عصفت بالكثير من الأقطار العربية. لسنا على ما يرام أيها الأكارم .. قلوبنا منهكة من التعب والسهد والأرق، فقد كانت شعارات الثوار جميلة، والوعود براقة، لكن النتائج كانت كارثية، لست هنا في مجال تقييم ما حدث، فما زلنا ندفع الثمن من أعمارنا التي ضاعت ونحن نبحث عن الخبز والماء والكهرباء ويعلم الله إلى متى وما الذي ينتظرنا في المستقبل.. لن ادافع عن الأنظمة ولن أجامل النخب السياسية في الحكم والمعارضة فهم شركاء في تدمير الأوطان.. فلا تحدثونا عن شعارات العدل والمساواة والحرية والعدالة المستوردة، فلم نر منها إلا الظلم والقتل والنزوح والتشرد .. لقد وجدنا النخب الثائرة أشد جرما وفسادا من الأنظمة الفاسدة التي خرجت عليها، وقد كفرنا بفرقاء السياسة وتجار الحروب. ها نحن في طواف يبلل أيامنا وليالينا بالدموع نتساءل أهذه هي حواضر العرب!؟      نحاول أن نتحسس اوجاعها، ونعيش همومها، رغم ما نلقاه من منغصات الحياة ونحن غرباء في أوطاننا نقتسم عذابات الحروب .. يا أيها القلب الحزين الذي أدمن السفر والترحال، هاهي ذكريات صباك على رمال بحر العرب تختال بها قوافي الشعر .. رفَّ طَيفُ المُنَى فماستْ غُصُونٌ والصَّباحاتُ، مِنْ عَقِيقٍ وتِبرِ عابرٌ في البلادِ مِنْ غيرِ زادٍ ومليءٌ أنا بفكري وشعري يمنيٌُ الهوى وقلبي يُغنّي (يا شراعاً وراءَ دِجلةَ يجري) انتصف ليل عدن، والظلام يخيم على البيوت والجبال والبحر .. في غياب القمر تبدو النجوم أكثر جمالا، والليل يوغل في المسير ، فتمر بخاطري ليالي عدن، فاتنة الشرق، التي تغفو على البحر ، مدينة العطر والبخور، والمدنية والريادة والتنوير، وهي تغرق في الظلام..

    على أنينِ ليالي الحزنِ في عدنٍ نهادنُ الصَّبرَ والآمالُ حادينا كم أيقَظَ السُّهدُ في أعماقِنَا وَلَهًا وَهَيَّجَ الشّوقُ غيمًا في مَآقِينَا ها نحنُ والعيد لا أُنسًا ولا طربًا نرتِّلُ الصَّبرَ شِعْرًا في أغَانِينَا ومن ليالي عدن إلى ليالي القاهرة، ودمشق، وصنعاء، تمر في مخيلتي الذكريات كشريط سينمائي ومن حولي البيوت كأنها أضرحة قد خيم عليها السكون.. وإذا بي أعود إلى مسقط رأسي "ذوبه" قريتي الحبيبة في دثينة هناك في ريف الجنوب، حيث ينتصب بيتنا ذلك الحصن العتيق .. الذي يقف شامخا على التل لا تنكسه الخطوب.. كان أفضل الأزمنة وكان أقسى الأزمنة، كان ربيع الأمل، وكان شتاء اليأس بحسب تشارلز ديكنز في مقدمة روايته الشهيرة (قصة مدينتين) ما زلت أذكر هذه الرواية! من منكم أيها الأصدقاء لا يتذكر سحر القراءة الأولى !؟ ما زلت أذكر سحر القراءة الأولى لرواية "وداعا للسلاح" و الشيخ و البحر رائعة الكاتب الراحل إرنست همنجواي.. كم أكره الحرب.. وقد حزنت كثيرا على "كاثرين باركلي " الممرضة الأنجليزية الجميلة، ومشهد دخولها المستشفى للولادة، صعوبات الولادة كانت قاسية، فأجريت لها عملية ولادة قيصرية نتج عنها وفاة الطفل ووفاتها هي بين ذراعي حبيبها "هنري" لقد انتهى كل شيء، فخرج هنري منهارا من المشفى، يجر خطاه وحيدا وقد فارق فتاة أحلامه، لا يدري إلى أين يتجه، حبات المطر تتساقط على وجهه وتمتزج بالدموع.. الصفحة الأخيرة من الرواية أعاد همنغواي كتابتها لسبعين مرة كما صرح الكاتب بنفسه لقد حاولا الهرب من الحرب ففرق بينهما الموت قبل أن تضع الحرب أوزارها.. تدور أحداث الرواية في إيطاليا أثناء الحرب العالمية الأولى، حينها كانت إيطاليا تواجه الجيشى النمساوي والألماني. وكان الملازم الأمريكي "فريدريك هنري" مسؤولا عن إحدى سيارة إسعاف في الجيش الإيطالي يتعرض "هنري" للإصابة بأنفجار قنبلة ، فيُنقَل إلى المشفى. وهناك يزوره صديقه الطبيب العسكري مهنئا له على شجاعته وسلامته، بالرغم من معارضة"هنري" للحرب ويخبره أنه سينقل إلى المستشفى الأمريكي في ميلان، وأنه سيوصي أن تكون الممرضة «كاثرين» مسؤولة عن رعايته. ويتم ذلك، وتطول إقامة "هنري" في المشفى لتبدأ خلالها علاقة غرام بينه وبين كاثرين، لكن مسؤولة قسم الممرضات أكتشفت الأمر من خلال وجود مشروبات روحية في غرفته، واستنتجت أنه يتظاهر بالمرض لكي يهرب من الحرب.. ما زلت أذكر وصف همنغواي للحرب، فانطبعت المشاهد في مخيلتي، وكم كانت مؤلمة وقبيحة فمتى ستضع الحرب أوزارها؟!.